
تتجدد في موريتانيا هذه الأيام، الدعوات إلى حوار شامل يفضي إلى إجماع وطني حول المشتركات الجامعة، في لحظة سياسية تتقاطع فيها استحقاقات الإصلاح مع تحديات التماسك الاجتماعي والأمن الإقليمي.
وجاء تجديد الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني للدعوة للحوار الشامل خلال افتتاحه مهرجان المدن القديمة المتواصل حاليا بمدينة وادان التاريخية، ليعيد للواجهة الانشغال الوطني العام بأوضاع البلد الذي يشهد خطابات شرائحية غير مسبوقة.
فقد أكد الرئيس الغزواني «أن تجاذبات النخب السياسية تمثل العائق الأكبر أمام بلورة أرضية وطنية مشتركة، بما يحوّل الخلافات المشروعة إلى انسداد منهجي يعرقل تنفيذ السياسات العمومية ويضعف ثقة المواطنين في مؤسساتهم».
وقال «إننا نعي جيدا أن ما تحقق في سبيل تقوية رباط المواطنة وتعزيز اللحمة الاجتماعية، هو مما يقع على مسؤولية الدولة حصرا، وهي تدرك أنه -على أهميته- لا يكفي، بل لا بد أن يعززه تحول عميق في العقليات والمسلكيات، يتراجع بفعله التأثير السلبي للقبلية والشرائحية والفئوية على رباط المواطنة».
وأضاف: «يشهد تاريخ الأمم والشعوب على أن تحول العقليات والمسلكيات هو في العمق، منوط في الأساس بالنخب السياسية والفكرية والإعلامية والفنية، وبالمجتمع المدني عموماً، ولن تتمكن الدولة منفردة من إحرازه».
«والغريب في الأمر، يضيف الرئيس الغزواني، أن نخب بلادنا مقتنعة بضرورة تعزيز الوحدة الوطنية وبأهمية ترسيخ مفهوم المواطنة، لكن تجاذباتها واختلافاتها ونزاعاتها تغطي غالبا على هذه القناعة، فيخرج بذلك هدف تعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ مفهوم المواطنة عن دائرة أولوياتها ويتضاءل إسهامها في تحقيق هذا الهدف إن لم تشارك، بوعي أو بغير قصد، في إعاقته».
وقال: «صحيح أن الاختلاف والتجاذب في الرأي والمواقف أمر محمود، به تعيش وتتطور المنظومات الديمقراطية، وهو مرغوب لدينا ونحترمه ونعتبر أن لا غنى عنه مطلقاً، لكنه لا ينبغي أن يكون على حساب أسس كياننا الاجتماعي ومشتركاتنا الأساسية، التي تقع على عواتقنا جميعاً مسؤولية تعزيزها وتوطيدها».
وزاد: «إن إجماعنا على هذه المشتركات وتكاملنا في تعزيزها وتوطيدها لا يقلص مطلقا الفضاء الواسع للاختلافات والتباينات التي هي روح الحياة الديمقراطية؛ ولذا يتعين علينا جميعاً، حكومة ونخباً سياسية وثقافية ومجتمعاً مدنياً، أن نكون يداً واحدة في حماية هذه المشتركات».
وأردف قائلاً: «ولم أدع مؤخرا إلى إجراء حوار شامل لا يستثني طرفا ولا موضوعا إلا لقناعتي بضرورة بناء إجماع وطني شامل حول هذه المشتركات بما يزيد رباط المواطنة متانة ويعزز الوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية. ومعلوم بداهة، أن الإجماع حول المشتركات لن يستديم حاضرا ومستقبلا إلا بمشاركة فاعلة من شبابنا أمل أمتنا وقاطرة تحولها ونمائها؛ وإننا لنعول كثيرا على إسهام شبابنا بحيوية ونجاعة في ترسيخ رباط المواطنة وتقديمه مطلقا على ما سواه من الروابط الأخرى».
هذا وشهدت السهرات الثقافية لمهرجان المدن القديمة في موريتانيا تفاعلاً لافتاً من جانب الشعراء الذين عبّروا، عبر قصائدهم، عن ترحيبهم بالدعوة إلى حوار وطني شامل يفضي إلى إجماع حول المشتركات الجامعة.
وقد تنوعت النصوص الشعرية بين استحضار رمزية المدن التاريخية كفضاء للتلاقي والتعايش، وبين التأكيد على أن الحوار هو السبيل الأمثل لتجاوز الخلافات وتعزيز الوحدة الوطنية.
وأضفى الشعراء على الأمسيات الثقافية بعداً فنياً وروحياً، حيث تحولت القصائد إلى رسائل مباشرة تدعو إلى نبذ التجاذبات السياسية وتغليب المصلحة العامة.
المنظمات الحقوقية تدخل على خط التفاعل
ولم يقتصر التفاعل مع الدعوة على الوسط الثقافي، بل امتد إلى المنظمات الحقوقية الموريتانية التي أبدت اهتماماً واضحاً بما طرحه الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في خطابه الأخير؛ فقد اعتبرت هذه المنظمات أن الدعوة إلى الحوار والإجماع تمثل فرصة تاريخية لإعادة بناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع، مؤكدة أن حماية المشتركات الوطنية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر مشاركة واسعة تشمل القوى السياسية والمدنية والحقوقية.
وأعربت منظمة «العافية أمونكه» غير الحكومية الناشطة في مجال الوفاق الوطني، عن دعمها القوي والواضح لتجديد الدعوة للحوار مؤكدة «أنه شكل تشخيصًا عميقًا للتحديات الحقيقية التي تواجه المجتمع، وفي مقدمتها ترسيخ المواطنة، وتعزيز اللحمة الاجتماعية، وحماية المشترك الوطني».
وأكدت المنظمة، في بيان صادر عنها «أن مضامين خطاب وادان تذكّر بوضوح بأن ما تحقق من إنجازات على طريق تعزيز السلم الاجتماعي وتقوية رباط المواطنة، يظل غير كافٍ ما لم يُدعّم بتحوّل حقيقي في العقليات والمسلكيات»، مشددة على أن «هذا التحول لا يمكن أن تضطلع به الدولة وحدها، مهما بلغت إرادتها أو إمكاناتها».
وأشارت العافية أمونكه، إلى أن «هذا النداء يُعدّ الثاني من نوعه الذي يوجهه رئيس الجمهورية إلى مختلف مكونات الأمة، من أجل حوار وطني شامل وبناء إجماع صادق حول الأسس الاجتماعية والمشتركات الجامعة، بعيدًا عن كل ما من شأنه تقويض الوحدة الوطنية أو إضعاف الثقة بين أبناء الوطن الواحد».
ورأت المنظمة «أن القسط الأكبر من هذه المسؤولية يقع على عاتق النخب السياسية والفكرية، والفاعلين الإعلاميين والثقافيين، والقيادات المجتمعية، إلى جانب عموم المواطنين»، مؤكدة «أن السلوك اليومي، وطبيعة الخطاب العام، وأسلوب إدارة الاختلاف والتنوع، هي المحدد الفعلي لمسار المجتمع، أكثر من أي نصوص أو إجراءات رسمية».
وقد عكست مواقف الأطراف الموريتانية من قضية المصالحة، مفارقة مزمنة: فمن ناحية، هناك وفرة المبادرات والأولويات من تجديد العقد الاجتماعي، وتحسين الحكامة، وتوسيع المشاركة، إلى معالجة الهشاشة الاقتصادية ومقتضيات الأمن في الساحل؛ ومن ناحية أخرى هناك ضعف في أدوات التوافق وآليات المتابعة. وبين ضرورة توسيع قاعدة التمثيل وإضفاء المصداقية على الحوار عبر إشراك القوى السياسية والمدنية والنقابية والجهوية، يبرز سؤال جوهري: كيف يُصاغ توافق يُبنى على المشتركات الواقعية بما فيها الدستور، التداول السلمي، سيادة القانون، العدالة الاجتماعية، التنمية المتوازنة؛ ويتحول إلى خارطة تنفيذ ملزمة، بمؤشرات قياس وجدولة زمنية وآليات تحكيم تضمن الاستمرارية؟
هنا، يصبح الرهان على هندسة مؤسسية للحوار تحيّد الاستقطاب، وتربط الشرعية بالنتائج، هو الاختبار الحاسم لقدرة الدولة والنخب على إنتاج إجماع فعّال لا يكتفي بالبيانات، بل يعيد تنظيم العلاقة بين السلطة والمجتمع على قاعدة المسؤولية والمساءلة المشتركة.
القدس العربي




(3).jpg)
.jpg)
.png)
.png)
.png)
.png)
.png)