حول انتخابات العسكر:
إن ثلث قرن من الزيف الانتخابي يكفي لندرك حجم الفخ الذي يوقعنا فيه نظام الاستبداد والحصص العائلية/القبلية / العنصرية/ الجهوية، العسكري، المتخلف، المستمر من 40 سنة ليبقينا قطيعا تحت قبضته.
فنظام الاستبداد العسكري الذي خلف سابقه؛ نظام الاستبداد المدني في 1978 يحكم موريتانيا بمنطق القبيلة: قبيلة العسكر بما في الكلمة من معنى؛ فالمتأمل لهذا النظام يجد أن العسكر حوروا دور الجيش من مدافع عن الحوزة الترابية إلى مشيخة تقليدية في حواضرهم: ثكناتهم التي تنتشر كالفطر في المدن لتؤمن مُلكهم وتردع عنهم في مظهر مشين للمدن، وتحتمي بالمواطنين متخذة منهم دروعا بشرية،تحكم هذه المشيخة بقوة السلاح وقوة الحديد والنار.
وهؤلاء العسكر يتحكمون في موارد الدولة، ينهبون خيراتها، ويتقاسمون عائدات الثروة الوطنية، ويتداولون الوظائف السامية في الدولة بلا استحقاق، ويورِّثون مناصبهم لأبنائهم وأقاربهم حتى أصبحت بعض قطاعات الجيش إقطاعية لجنرال معين ما دام العابث فيها.
يحيطون أنفسهم بأصحاب الأقلام المأجورة، ويلفون حولهم أصحاب العمائم من فقهاء وأئمة ممن يبررون بواسطة الدين سوء صنيعهم يتلقون مقابل ذلك رشاوى وامتيازات وتسهيلات.
لقد صاروا "قبيلة" تفرخ المنتمين إليها من أسوء الضباط تكوينا وأداء وأكثرهم شراهة في أكل المال العام، وأنذلهم سلوكا، وأحطهم قدرا في المعرفة، "قبيلة" تؤطر من يسايرها وتقصي من يتطهر ويترفع على أفعالها من الضباط والجنود ليبقوهم على الثغور يضحون من أجل وطنهم ولا يحصلون لقاء ذلك إلا إهمالا وسوء تغذية ومخاطر الحوادث في سيارات متهالكة مع علاوة 10 آلاف أوقية!
أربعون عاما، والعسكر جاثمون على موريتانيا وشعبها، يحطمون القيم المجتمعية بتشجيعهم على الفساد الإداري والمالي خدمة لاستمراريتهم في حكمهم الفاسد العفن، ويُجهِّلون الشعب عن طريق ضرب المنظومة التعليمية بتحقير العلم والمعلم وارتجالية القرارات وآنيتها وإضعاف بنية المدارس.
يستخدم العسكر بعبع الوحدة الوطنية حتى يرهبوا به كل من ينبري للصدع بالحق، أو المطالبة بالحقوق، وفي الحقيقة هم من يعمل على التفريق بين المواطن وأخيه في القرى والأرياف حتى صارت القرى تتفرع منها قرى جديدة بفعل تلك الشقاقات، وفي العاصمة يجري هذا التفريق على أساس عرقي وجهوي وطبقي، ففي الميناء والسبخة يعزل الزنوج، وفي الترحيل ودار النعيم لحراطين، ويتركز أهل الشمال في مقاطعات لكصر وتيارت، بينما يتركز أهل الشرق في توجونين وعرفات، وتشكل شوارع جمال عبد الناصر وشارع المختار ولد داداه جدارا عازلا للطبقة المترفة عن الطبقات المسحوقة، وفي القطاعات العمالية تزرع الشحناء بواسطة زرع أجواء عدم الثقة وتمييع العمل النقابي وتفريغ الإضرابات من محتواها، عن طريق الدسيسة بواسطة استخباراتهم، أو زرع الشحناء والبغضاء وتغذية الصراعات المحلية أوالقبلية أو الجهوية أو العرقية (شعارات حكاية الوحدة الوطنية).
وتتيح سياسة "فرق تسُد" هذه للعسكر إلهاء القوى المدنية في صراعات وهمية، كما تتيح له التحكم في مصير البلد بسبب إثارة المخاوف من أوهام مجهولة، فالشعب الموريتاني العظيم لن يقتتل ولن يتناحر مهما دبروا من مكائد ودسوا من نعرات لأن أواصر الأخوة التي تربطه وثقافة التسامح التي تسكنه تفوت عليهم ذلك.
يتخذ العسكر من "الديمقراطية" بدلة يموه بها عن بزته العسكرية، ويخفي حقيقة جوهر نظامه الاستبدادي؛ ففي الواقع يتوفر نظام العسكر القائم بقوة السوط والمنشار على مفردات توحي بالديمقراطية من قبيل البرلمان والانتخابات ورئاسة الجمهورية والدستور والقوانين والأحزاب والنقابات..إلخ، لكن ما هي إلا مجرد صور وكليشيهات لا تتعدى الشكل، أما الجوهر فهو الدبابة والانقلاب والقوة.
ففي كل مرة تُتَداول فيها السلطة يتم ذلك بواسطة انقلاب، أو بنتائج انقلاب، والانتخاب الذي يراد لنا أن نغتر به ما هو إلا انتخاب العسكري الذي يسطو على السلطة (ولد الطايع 1992 و1997 و 2003 وولد عبد العزيز في 2009 و2014) وفي المرة الوحيدة التي أجبر فيها العسكر على تقديم رئيس مدني في 2007 (أو ما نسميه لحظة ضعف العسكر) عادوا بعد أقل من 16 شهرا لينقلبوا عليه لما تعارضت مصالحهم مع حكمه.
ما عدا ذلك كانوا أكثر سفورا (ولد محمد السالك 1978، ولد أحمد لولي 1979، ولد هيداله 1979، ولد الطايع 1984-1992 ، ولد عبد العزيز 2008-2009).
إن السياق الذي استخدم العسكر فيه الديمقراطية معروف، فلم تأت ديمقراطيتهم المزعومة من قناعة صافية بأهميتها، وإنما جاءت بعد ضغط المنظومة الدولية المانحة في نهاية الثمانينيات عندما لوحت بقطع المساعدات عن الأنظمة العسكرية في افريقيا، فاضطر وقتها العسكر إلى الاستجابة لتلك الضغوط، وكلفوا خبراءهم بوضع دستور مزور مشوه مختل لا يوازن الصلاحيات بين السلطات ولا يعبر عن روح الديمقراطية التي تعتمد على مبدأ السيادة الشعبية وتوازن السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
لقد كان دستور 20 يوليو 1991 خديعة كبرى وفخا ساذجا نصبه العسكر لهذا البلد بنخبه وجماهيره، تلك النخب التي هللت للتعددية السياسية التي اكتشفوا سريعا أنها تعددية في الشكل وأحادية في الجوهر (التزوير الفاحش في الانتخابات الرئاسية 1992) وتراجعت الطبقة السياسية وقتها عن لعب الدور المطلوب منها وهو مسايرة الجماهير في الدفاع عن الديمقراطية بثنيهم لهذه الجماهير عن ذلك، وكان من الممكن أن نقطع أشواطا في تكريس ديمقراطية حقيقية لكنهم آثروا الاستمراء في لعب دور الكومبارس المشرع لديمقراطية العسكر، وظل هؤلاء يناورون آونة بمقاطعة الانتخابات والمشاركة بها آونة أخرى، ليهدوا المزيد من الماكياج لديمقراطية العسكر القبيحة مسهمين في إقناع العالم بأن هناك ما يمكن اعتباره "هامشا" من الديمقراطية.
وفي الحقيقة كانت "لعبة" بما في الكلمة من معنى؛ فالقوانين التي يفترض أنها ستحمي الحقوق المنصوصة دستوريا لم تُحَدَّثْ حيث ظل العمل بقوانين تعود إلى العهد الاستعماري أو تعود إلى "العهود الاستثنائية" مع تحفظنا على هذا التعبير، إذ لا نزال في ذات العهود، وبعض تلك القوانين لا يزال معمولا به حتى اللحظة مما يعكس رغبة العسكر في الإبقاء على الوضع الاستثنائي كما هو، في الوقت الذي يسمح فيه الدستور بكل بساطة بتعديل تلك القوانين عن طريق السلطة التنفيذية التي لا تتطلب إلا وريقات صادرة عن مجلس الوزراء الذي يجتمع أسبوعيا، ولكن إرادة العسكر ليست في هذا الاتجاه.
ولأجل ذلك ظهرت قوانين تتنافى وروح الدستور مثل قانون الأحزاب الذي يحظر على أي حزب القيام بأي نشاط دون التصريح به من طرف الإدارة: إدارة العسكر، التي ترخص لهم تماشيا مع رغبات وأهواء العسكر، وتحظره .... النشاط لرغبات وأهواء العسكر- ، ويبقى العسكر متحكمين بالعمل السياسي، ويعكس هذا الأمر عقلية العسكر الآمرة الأمنية لتنسحب على المشهد السياسي المرن بطبعه.
كانت المادة 104 من النسخة الأولى لدستور العسكر بمثابة الملجأ الأخير لنسف وتعطيل الديمقراطية الشكلية المتاحة حتى تم تعديلها في 2006.
وعاث العساكر فسادا في العمل السياسي الحزبي محطمين أي أمل في تقوية هذه الهيئات المدنية الحديثة، وكان حل الأحزاب عملية روتينية سهلة للغاية متى ما قدر العسكر ذلك: تم حل حزب الطليعة، فاتحاد القوى الديمقراطية فالعمل من أجل التغيير، ورفضت عشرات مشاريع الأحزاب من طرف مصلحة صغيرة في وزارة الداخلية إمعانا في تتفيه وتحقير الأحزاب التي يفترض أنها لا غنى عنها في تكريس الديمقراطية.
لعبة القوانين التي تفرغ الحقوق الدستورية من محتواها يتقنها العسكر، فطوال التسعينيات ظلت المادة 11 من قانون الصحافة كرباجا مسلطا على كل من يتعدى حدود التعبير المسموح بها، فيتعرض للمصادرة أو السجن إضافة إلى التجويع، فيما تبسط موائد الفتات للمرتزقين من أدعياء الصحافة، غير أن نضالا صبورا خاضه شعبنا لتحرير الإعلام من تلك القيود أدى إلى إلغاء هذه المادة في لحظة ضعف العسكر ـ تلك اللحظة التي سنعود إليها بمزيد من التوضيح ـ واعتمد ما سمي لاحقا بـ "تحرير الفضاء السمعي البصري" الذي تم تفريغه من محتواه أيضا بالتحكم في إعطاء التراخيص حيث منعت تراخيص التلفزيونات من عدة مبادرين جادين يشتم منهم رائحة الاستقلالية.
أطلق العسكر الحملة الثانية لتفريغ حرية الرأي والصحافة وحق إعلام المواطن بالشؤون العامة من محتواها، فتم تمييع الحقل الصحفي بإقحام المئات من خريجي أروقة الداخلية وإدارة الأمن لينشروا الأكاذيب مقابل رواتب ولا يتحروا الدقة سعيا إلى تقويض مصداقية العمل الصحفي لكي لا يثق المواطن فيه مطلقا لتوجيهه للإعلام الرسمي ليكون المصدر الوحيد للمعلومة التي يمرر من خلالها العسكر أكاذيبهم (مثلما حدث مع فضيحة اطويلة في 2012 ودعم الأعلاف الحيوانية، ومحروقات الجيش التي بلغت حسب ناعقهم 50 مليون دولار أسبوعيا).
ولئن كانت الوسائط الاجتماعية على الانترنت تفرض نفسها كإعلام بديل فإن محاولات العسكر للحد من تأثيرها لم تتوقف، وشهدنا اعتقالات وتوقيفات عديدة، واستخدام أساليب التجسس على النشطاء والمدونين المعارضين والتعدي على خصوصياتهم (هواتف ولد غده) بمساعدة شركات الاتصال التي سيعمل الشعب الموريتاني على تأميمها، إضافة إلى نصب أدوات التجسس المشتراة بأموال المواطنين في صفقات فاضحة، ليخرج العسكر قانون "الميمات الثلاثة" من فوهة مدافعهم (البرلمان)، لذلك فإن معركة حقيقية لفرض حرية تداول المعلومات والرأي تخاض في هذا الجانب، وربما عندما يشتد وطيسها سيغلق النظام العسكري المتسلط هذه الوسائط.
وسيبقى ظهور التلفزيونات والإذاعات محكوما برغبة العسكر في ذلك، حيث اختفى "ما يشبه التلفزيونات المستقلة" دفعة واحدة عندما أراد العسكر ذلك عبر قيد الموارد (أغلقت التلفزيونات غير الحكومية بسبب عجزها عن سداد مستحقات هيئة البث!).
من هذا نستخلص أن حرية التعبير والرأي وهم في هذا البلد، فلا حرية إلا في المنازل أو المجالس الخاصة ـ إن كانت بها حرية ـ أما الفضاء العام فلا حرية به.
وحتى الآن اتضح أنه لا تتوفر بديمقراطية القشور السائدة في هذا البلد مبادئ الديمقراطية الأساسية: سيادة الشعب؛ الذي لا دخل له في عمليات تداول السلطة، ولا الحريات السياسية: الأحزاب والرأي، فماذا عن الحريات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية؟
الجرح أكثر إيلاما بهذا الخصوص؛ فلا تزال الطبقات الهشة هي السائدة في هذا البلد "الديمقراطي" من وجهة نظر العسكر، فالعبيد لا يزالون يستخدمون كسلعة في هذا البلد، إضافة إلى أنواع من العبودية الأخرى كالعبودية العقارية المستخدمة في مزارعنا بشمامه وضفة النهر، واليد العاملة تتعرض لأسوء أنواع الاستغلال في المصانع المنجمية عن طريق الوسطاء "تاشرونا" وفي الموانئ عن طريق مكاتب تقبض الأموال الطائلة نتيجة بيعها لعرق الحمالة الذين ينقلون البضائع التي لا أمل لهم في الحصول عليها بسبب الغلاء وضعف الأجرة التي يحصلون عليها مقابل نقلهم لها، ولا تزال أغلبية الشغيلة الساحقة في القطاع الخاص بدون عقود عمل ولا ضمان اجتماعي وصحي.
وتنخر البطالة التي تجعل من بلدنا الأسوء عالميا في مجالها (حوالي 40%) ـ في قلب مجتمعنا، وتُكدس أكوام العاطلين من الشباب في سوق الانتظار واليأس والجريمة المنظمة والتطرف والضياع، في ظروف تعليم دمرها العسكر بسياساتهم المرتجلة، وظروف تكوين هي الأدنى من نوعها في العالم حيث تحتل هذه البلاد المرتبة الأخيرة عالميا في مجال جودة التعليم والتكوين، تم ذلك في ظروف اجتهد فيها العسكر ليعلنوا عن سنة تعليم فحزنا المرتبة (137) ليفهم المواطن معنى التعليم عند نظام العسكر. فما بالكم لو لم تكن سنة تعليم!
الأدهى والأمر أن التعليم بفضل العسكر وديمقراطيتهم المشوهة بدلا من أن يكون أداة رقي اجتماعي وتوحيد أصبح مرآة عاكسة للتمايز الطبقي، فالفقراء يرتادون المدارس العمومية، والأغنياء يوجهون أبناءهم للمدارس الخاصة، أولئك يحظون بتعليم رديء، وهؤلاء ينعمون بتعليم أكثر جودة. هذا مع انتشار مدارس فئوية خاصة بأعراق معينة، أو قبلية حتى في بعض الأحيان.
وتكون النتائج كارثية: تدمير مستقبل البلاد عن طريق سياسة التجهيل للغالبية من أبنائه بسبب إهمال العسكر للبنى المدرسية، وتفريق أجيال البلد في التعليم وحرمانهم منه، وضنهم بتوزيع عائدات الثروة الوطنية عن طريق الإنفاق الاستراتيجي على التعليم، لأن تجهيل الشعب وتشتيته هو الضامن لبقاء لحكم العسكر.
أسوء من ذلك الصحة، فرغم توفر إمكانيات تتيح الحد الأدنى من التغطية والرعاية الصحية، فإن البلاد في ظل ديمقراطية العسكر تشهد عجزا كبيرا في الكادر الطبي البشري (بنسبة 400% تقريبا) في ظل رفض اكتتاب الأطباء المتعمد من حكومات العسكر، وتنهك جيوب المواطنين في العيادات الخاصة ومستشفيات شبه المنطقة (غرب افريقيا والمغرب العربي) بسبب غياب الأدوات الصحية وضعف استيعاب المستشفيات ورداءة خدماتها.
ولا يفوت العسكر أي فرصة لازدرائهم بحاجة المواطنين للتغطية الصحية، وآخر مظاهر ذلك تعاطيهم مع إضراب الأطباء مؤخرا حين تجاهلوا هذا الإضراب تاركين المواطنين دون تلقي العلاج ودون إبداء أي مسعى جدي لحل مشاكل الأطباء. وكيف نتوقع منهم أفضل من ذلك، وهم بلا أدنى حد من المسؤولية وقادرون على إيفاد أنفسهم ومحيطهم إلى أرقى المستشفيات في العالم على حساب ثرواتنا الوطنية وأموال الشعب، بل إنهم يستكثروننا ونحن لا نزيد على الملايين الأربعة كما قال الجنرال الأرعن في خطابه بالنعمة؟!
يتم تجاهل معاناة وألم شريحة الزنوج دون السعي للتكفير عن جريمة التصفية العرقية لهم في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات التي قام بها النظام العسكري عبر نشر حقائقها للرأي العام وتقديم المسؤولين عنها للمحاكمة، ثم بعد ذلك يتم التشدق بأن النظام القائم حريص على تجاوز هذه الوصمة في تاريخنا وفي نفس الوقت يتستر النظام على مرتكبي تلك الجرائم حيث قال رأس النظام الأرعن أنه يعرفهم، فكيف وهو "رئيس المجلس الأعلى للقضاء" وهو الحاكم على كل السلط بدبابته لا يقدم للمحاكمة من قال أنهم قتلوا زملاءه ليلة عيد استقلال في ما يعرف بمجزرة إينال وأنهم هنا في المعارضةـ إن لم يكن ضالعا في تلك التصفيات.
إن من يريد تأسيس مصالحة وطنية حقيقية عليه أن يداوي الجراح وأن يواجهها، لا أن يضع ضمادات مزيفة مثل صلاة الجنرال ولد عبد العزيز واعتذاره الأجوف.
وأمام معضل الاسترقاق وآثاره يكتفي العسكر بإنشاء وكالة هزيلة أعطوها اسما رنانا، وإنشاء محكمة مختصة لا سلطة لها لمحاكمة المستعبدين إلا عندما يعطيها العساكر الأمر بذلك عندما يواجهون الضغوط ثم يطلق سراح من حكم عليهم من طرفها بعد انتهاء تلك الضغوط (حالة المستعبدين في نواذيبو) لذر الرماد في العيون، ليس إلا!
يخشى العسكر حد الموت من فتح حوار وطني حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية وفي مقدمتها مشاكل العبودية والتمييز الطبقي والعدالة وتوزيع الثروة، بينما هم مولعون بإقامة حوارات "بمن حضر" لتحسين أزرار تشغيل لعبتهم الديمقراطية البغيضة.
لقد سيق المواطنون إلى الانتخابات في 1986، وسيقوا مرة أخرى في 1991، وسيقوا ثالثة في 1992، ورابعة في 1994، وخامسة في 1996، وسادسة في 1997، وسابعة في 1999، وثامنة في 2001، وتاسعة في 2003، وعاشرة في 2006، و حادية عشرة وثانية عشرة في 2007 وثالثة عشرة في 2009، ورابعة عشرة في 2013، وخامسة عشرة في 2014، وسادسة عشرة في 2017..
ما الذي تغير بين أول انتخابات سيق لها المواطنون وآخر انتخابات؟
كان الموتى ـ على الأقل ـ لا يصوتون في أول انتخابات..!
وفي كل مرة كان المواطنون فيها يساقون إلى الانتخابات كان يقودهم الأمل إلى تغيير أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق كرامتهم وتعزيز حرياتهم وحقوقهم. ولكن في كل مرة كانوا يفتحون أعينهم على النتائج الهزيلة كانت تزول الغشاوة التي خاط العساكر حول أعينهم بإتقان.
وفي الواقع يبدو أن عزوف المواطنين عن آخر انتخاب (الاستفتاء العسكري على تعديلاتهم الدستورية) يدعو له العساكر المهيمنون على البلد بقوة السلاح لم يُقْرَأ جيدا من طرف نخب هذا البلد.
لقد لزم المواطنون بيوتهم في ذلك اليوم الذي سيكون له شأن في الذاكرة النضالية لشعبنا ضد الطغيان، وخلت مكاتب تصويت العساكر لهم ولزمرتهم من المنافقين والمرتزقة، وشوهد كبار الوصوليين من مساندي النظام وهم يدورون في تيه بين المكاتب الخاوية وعلامات الخيبة عليهم.
لقد كان عصيانا مدنيا يوم السادس من أغشت 2017 وتعبيرا قاطعا برفض المهازل الانتخابية العبثية.
لكن العسكر البعيدين من النزاهة زوروا كما في كل مرة إرادة الشعب، ويأملون من خلال دعوتهم التاسعة عشرة للانتخابات أن يصونوا ما بقي من لعبتهم المدمرة، ولكن هيهات..
ثلاثون عاما، وشقاق الانتخابات يفرخ عقب كل انتخابات قرى وحواضر تقطع بواسطتها الأرحام على إثر الخلاف بين الأشقاء في حواضرنا الداخلية الذي يغذيه ويذكيه العساكر..
ثلاثون عاما، والحصيلة عُمدٌ أو نواب لا يدينون بفضل إلا للنظام الذي أوصلهم إلى مناصبهم أو أبناء عمومتهم وأحلافهم وأحلاسهم (البرلماني الوضيع الذي سخر من الأموات في حادث واد الناكه)! كم مرة وقف طاغية محلي متجبر ليخبر المواطنين أنه مستغنٍ عن تصويتهم وأنه سيفوز بواسطة ناخبين يحملهم في جيبه؟!
ثلاثون عاما، والعسكر يتلاعبون بالقيم الثقافية والدينية والاجتماعية؛ فقد تحول الأئمة والعلماء إلى أداة للإفتاء بما يوافق أمزجتهم، وضاع تقديرهم مقابل إفطارات رمضان أو القطع الأرضية التي تمنح لهم على حساب الفقراء المطحونين.
وعندما تحين لحظة ضعف للعسكر يطفق هؤلاء العساكر في التودد للطبقة السياسية وللممولين بإجراءات شكلية وحيل تبقيهم مسيطرين مقابل إصلاحات محدودة، وللأسف، فإنه في كل مرة يلقي السياسيون المدنيون للعساكر طوق النجاة من حيث يشعرون او لا يشعرون.
ففي 2005 ـ 2007 كان العسكر في أضعف لحظة لهم في تاريخنا، لكن الطبقة السياسية شرعت لهم انقلابهم أمام الرفض الدولي، واستخدم العسكر حماس السياسيين لبناء نظام حكم جديد ديمقراطي لاستمرار سيطرتهم مقابل تعديلات طفيفة في النظام السياسي لم تغير جوهره ولا مراكز القوة فيه، إذ ظلت الأحزاب السياسية كما هي: كائنات شبحية ضعيفة، وظل مركز السلطة متمحورا حول رئيس الجمهورية الذي يختزل كل السلطات، وتم الاكتفاء بتحديد المأموريات باثنتين وقسم دستوري بعدم تغيير ذلك.
وقد أوضحت مراوغات العساكر خلال سنوات 2015 ـ 2018 أن تلك الإجراءات لم تكن محصنة تماما، فقد طفق الوزراء ومنافقو النظام يروجون لتعديل تلك المواد المتعلقة بحصر المأموريات، وأعلن رأس النظام في أكثر من مناسبة أنه لا يخشى شيئا من تعديلها، ولكنه لا يرغب في ذلك!
وفي 2008 عندما انقلب العسكر على الرئيس المدني الذي ساندوه في 2007 وجدوا من داخل الطبقة السياسية من يساندهم أيضا. إنه أمر يجب أن يتوقف نهائيا، فقد آن الأوان للتفكير في مصلحة الوطن بدل المصالح الحزبية الضيقة.
والطبقة السياسية التي تهرع الآن إلى المشاركة في الانتخابات دون أي ضمانات بالشفافية وافتقادها لأدنى مقومات الديمقراطية مسؤولة مسؤولية تاريخية عن إبطاء حركيتنا اتجاه الديمقراطية والحكم المدني.
إن مخاطر المشاركة في هذه الانتخابات من منظورنا في حركة 25 فبراير تتلخص في:
أولا: تشريع نظام الحكم القائم، والذي ألقينا الضوء يإسهاب على حقيقته وجوهره الاستبدادي العسكري، وذلك بالمساهمة في الإيهام بوجود هامش ديمقراطي تحت ظله.
ثانيا: تبرير النهب والإفساد الذي يقوم به العساكر، فالبرلمان الذي شاركت فيه المعارضة بين 2006 و2013 هو الذي صادق على اتفاقية الصيد مع الصين التي نهبت بموجبها ثروتنا البحرية، والبرلمان الذي يترأسه في بعض الجلسات أحد قادة تواصل المعارض ويزجر أحد نواب الموالاة عن مساءلة وزير المكوس حول حساباته المشبوهة التي ينهب بها ثروات الشعب الموريتاني هو الذي يراد لنا استنساخه من جديد: أقلية من المعارضة تتمم الدور في المسرحية التراجيدية المتواصلة منذ التسعينيات!
ثالثا: زيادة الشقاقات والخلافات بين مجموعاتنا الوطنية، ونربأ بالقوى المدنية السياسية أن تشارك في تجذير تلك الخلافات التي تشغل المواطن عن همومه الأساسية: الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية.
بناء على ما تقدم فإن حركة 25 فبراير؛
ـ تدعو الشعب الموريتاني الطامح للكرامة والديمقراطية الحقيقية إلى مقاطعة هذه الانتخابات والتعبير عن ذلك بقوة.
ـ تهيب القوى السياسية المنظمة إلى النأي بنفسها عن المشاركة في ترسيخ الديمقراطية المشوهة التي يمارسها العسكر، وفرض ديمقراطية حقيقية تكون فيها السيادة للشعب الموريتاني.
ـ تلتزم بالنضال السلمي لتحقيق دولة القانون والكرامة ، الدولة المدنية التي تسودها العدالة الاجتماعية والديمقراطية.
المجد للشعب الموريتاني.
يسقط حكم العسكر.
نواكشوط 2 يوليو 2018