من الصعب ان يرثي احد قامة بحجم الاستاذ محمد حسنين هيكل. ليس فقط لأنه لا يحتاج الى رثاء، وهو الذي طالما رفض التكريم والأوسمة في حياته، بل لأن عطاءه الوطني والمهني والانساني الممتد، والمثير للجدل احيانا، على مدى ثمانية عقود يجعله عصيا على الالمام به في هذه المساحة. وان كان هذا لا يعفي الدولة المصرية من سؤال مشروع حول اكتفائها بتشييع شعبي، وعدم مشاركة اي مسؤول رسمي في وداع رجل أسهم في صنع تاريخ اأمة ونسج وجدانها لسنوات طويلة. خاصة ان هيكل كان تولى منصبا رسميا، هو وزير الارشاد القومي في العام 1970، وان كان هذا قد حدث رغما عنه بقرار مفاجئ للرئيس الراحل جمال عبد الناصر في العام 1970. بل ان المؤسسة العسكرية بشكل خاص كان عليها ان تتذكر قيامه بادوار وطنية تاريخية، مثل قيادته خطة الخداع الاستراتيجي ضد اسرائيل، واسهامه في عملية نقل الحائط الصاروخي الى الجبهة، وهذه كانت مقدمة ضرورية للانتصار في حرب اكتوبر عام 1973. وبعيدا عن اصوات قليلة، لم تتورع عن الشماتة في رحيله، في محاولة لتصفية حسابات قديمة، وبعيدا عن أقلام وأصوات أخرى تنتقد مواقفه المؤيدة للانقلاب العسكري، فان اجيالا متعاقبة من تلامذته ومحبيه وقرائه بل ومعارضيه ايضا تدرك قيمة هذه اللحظة بالنسبة الى تاريخ امة خاض حروبها، واصبح جزءا اساسيا من ذاكرتها، ثم تجاوز تأثيره حدودها ليحظى بمكانة دولية فريدة جعلته الصحافي الاهم في العالم خلال القرن العشرين، حسب رأي كثيرين. ومن الطبيعي ان يكون لكاتب وسياسي ومفكر مثل هيكل خصوم واعداء، بل وان يتفق او يختلف معه انصاره ومعارضوه. الا ان هؤلاء جميعا سيتفقون في النهابة غالبا على انه لا يمكن التأريخ للشرق الاوسط منذ منتصف القرن العشرين الى اليوم دون العودة الى كتبه ومقالاته، ليس كمحلل وقارئ استراتيجي للاحداث فقط بل ومشارك في صنعها احيانا. ويمكن الوقوف عند محطتين سريعتين هنا في مسيرة هيكل، قد تكونان تبرزان ولو جزءا يسيرا من قيمته الاستثنائية: أولا: كان السبب الرئيسي في خلاف هيكل مع الرئيس الراحل انور السادات معارضته للسياسة التي اتبعها النظام في استثمار الانتصار في حرب اكتوبر. فقد اعتبر هيكل ان السادات اهدر قيمة نصر اكتوبر بدلا من تعظيمه والاستفادة منه في تحقيق مصالح القضية العربية. واستنكر تسرع السادات في ابلاغ وزير الخارجية الأمريكي حينئذ هنري كيسنجر عزمه على وقف النار، وعدم تطوير الهجوم للاستيلاء على مضائق سيناء، ثم رفض نهج السادات في التقارب مع الولايات المتحدة عقب الحرب (باعتبار انها تملك 99 في المئة من اوراق الصراع) حسب تعبيره الشهير، وهو الذي انتهى به الى توقيع اتفاق كامب ديفيد مع اسرائيل. وكانت النتيجة ان هيكل دفع الثمن بخسارة موقعه في رئاسة تحرير الاهرام في شباط/فبراير عام 1974. ولم ينس السادات لهيكل انتقاداته، بل انتقم منه باعتقاله ووضعه في السجن في العام 1981. وبالرغم من هذا ترفع هيكل عن الدخول في معركة شخصية معه، بل اكتفى بانتقاده الموضوعي لكن الحاد للصلح المنفرد مع اسرائيل، بل انه لم يقلل من اهمية الدور التاريخي للسادات في اتخاذ قرار الحرب ضد اسرائيل في اكتوبر، وتحقيق انتصار نادر عليها اعاد لمصر والعرب كرامتهم. ثانيا: كان هيكل اول من دق جرس الانذار في حديث تلفزيوني داخل مصر بشأن نوايا الرئيس المخلوع حسني مبارك توريث السلطة لنجله. وكان الحديث وما أشعله من جدل واسع، أغضب مبارك، وكاد يتسبب في إغلاق القناة الفضائية التي اذاعته دليلا جديدا على انه احتفظ بقدرته على التأثير سياسيا وشعبيا بالرغم من انه كان ممنوعا من الكتابة او الظهور الاعلامي لسنوات طويلة بعد مغادرته صحيفة «الاهرام». وواصل هيكل انتقاداته بين حين وآخر لاصرار مبارك على البقاء في السلطة، في وقت لم يكن النظام يتورع فيه عن تجنيد ابواقه واجهزته الامنية للانتقام من معارضيه. وليس هذا سوى قليل من كثير يمكن ان يقال في حق رجل حافظ على مكانته الوطنية والمهنية وقناعاته الفكرية في زمن تتقلب فيه القلوب والولاءات والاقلام، حتى وان جانبه الصواب احيانا. رأي القدس