الجيش الموريتاني في ذكرى تأسيسه يحتفل بنفسه ويحتفل به الموريتانيون؛ فهو مؤسسة جمهورية جامعة مانعة ينظر إليها الموريتانيون بمزيج من الرهبة والرغبة والاحترام والريبة؛ فهو الضامن للاستقلال حسب مأموريته في الدستور؛ بما يعني ذلك من حماية الحوزة الترابية وضمان الأمن والاستقرار؛ وقد قدم الجيش منذ تأسيسه مئات الشهداء من ضباط وضباط صف وجنود في سبيل أمننا واستقلالنا؛ وغني عن القول إن آلاف الأفراد المنتسبين لهذه المؤسسة المحبوبة والعريقة يحظون بتقدير عال من لدن العامة والخاصة؛ بسبب صبرهم وجلدهم وانضباطهم الذي أكسبته إياه الجندية؛ فهو بكلمة واحدة مصنع للرجال؛ فيه تنتفي العقد النفسية وتقوى روح الجماعة وتتعزز الرجولة. ولقد شهدت الدولة الموريتانية منذ نشأتها هزات عنيفة كان الجيش حاضرا وفاعلا فيها وكانت مظلته طافية ؛ على سبيل المثال لا الحصر الحرب في الصحراء الغربية ومحاولات الإنقلابات والانقلابات 1981 و1987 و2003و 2005و2008 التي كان بعضها داميا وبعضها أبيض؛ وباختصار أصبح اسم الجيش تجوزا أو واقعا؛ مقترنا بإنهاء الأنظمة. ومؤخرا أصبح الجيش خارج الحكومة والمؤسسات العمومية لأول مرة منذ نهاية السبعينات؛ وانتظم في لبوس إداري انسيابي جديد وأصبح جيوشا واقتنى أسلحة وآليات متطورة زادت من قدراته القتالية في الجو والبر والبحر ؛ وتحسنت ظروفه بشكل لايخفى على متتبع وازدادت اهتماماته بالمصادر البشرية والتكوين ؛ حيث اهتم بالتعليم النوعي وافتتح مدارس امتياز و اكاديميات ومدارس للهندسة والطيران وزاد عدد اختصاصات منتسبيه القتالية والغير القتالية وازدادت رواتبهم؛ كل ذلك إضافة إلى سعيه الدؤوب في مجال الصحة العامة وذلك باكتتاب الأطباء والممرضين وافتتاح مراكز صحية مفتوحة أمام العامة. كل ذلك يحسب لنا وله وللجمهورية الفتية التي تعتمد اعتمادا أسطوريا على هذه الركيزة؛ صحيح أن القيادات المتعاقبة للجيش كانت كلها من أبناء المؤسسة وهذا ما سهل تطويرها الدائم والمحافظة على خطها الصارم في الإدارة والانضباط؛ غير أن الجبش هو في النهاية مؤسسة جمهورية تعكس حال المجتمع الذي تنتسب إليه وهذا مالا نريد أن نسترسل فيه إلا بالإشارة إلى جوانب نعتقد أن الجيش الموريتاني يجب أن يضمها لخططه رغم أنها قرار سياسي بالدرجة الأولى؛ تلك الجوانب هي الخدمة العسكرية الإجبارية للشباب الذين هم في سنها مع التمييز الإيجابي في حق المرأة وتجريم ممارسة السياسة باسم المؤسسة والاهتمام بالتصنيع العسكري. فالخدمة العسكرية الإلزامية هي مكلفة في ذاتها من حيث الأعداد الهائلة للمستهدفين لكنها ذات مردودية عالية على الشباب وتكسر حاجز العقدة ”سيويل-صندري“ أو المدني والعسكري؛ التي تشعر من لم يدخل الجندية يوما أن لديه نقصا وتحسن من نظرة العامة للجندية؛ التي تكاد تكون محصورة في الزي وانتظام الحركات والغرابة في المجتمع؛ وهي خطوة في نظري مركبة وقد تقود إلى خلق جيل جديد سليم العقل والبدن ووطني بالقناعة ؛ خصوصا إذا ما استهدفت الشابات الموريتانيات في بعض جوانبها حيث سيهذب الجيش بصفة مباشرة أجيالا بكاملها وسيبيد عقليات بكاملها. أما السياسة وهي أولا وأخير تنفيذ خطط ورؤى عبر الحكم؛ فلا تتناغم في حال من الأحوال مع الجندية ؛ وقد تكثر المجاملات في هذا المجال ، غير أن طريقة اللجان العسكرية المتعاقبة على الحكم في موريتانيا منذ : الخلاص والانقاذ والعدالة والأعلى؛ تعاملت مع الشأن العام بأسلوب الغنيمة مع تفاوت في الكيف؛ ولعل الجيش كان متضررا أكثر بذلك من المجتمع والدولة حيث الطفرات الشخصية التي تركت إحساسا بالغبن؛ ولعل من مظاهر ذلك الانغماس في مستنقع السياسة تحييد القضاء في بعض الحالات الأمنية مثل أحداث نهاية التسعينات والتي نجمت عنها كوارث كان الجيش في غنى عنها إن هو أشرك السياسيين والقضاة أصحاب الشأن؛ فالجندي مادام في مهمة عسكرية تقليدية أوغير تقليدية سيبقى جلدا صبورا حازما؛ أما إذا أربك نفسه بدهاليز السياسة والصراع على السلطة فإنه سيتخندق ويكون طرفا ؛ حينها تراه مديرا للإذاعة أو الميناء أوشركة المياه والكهرباء تماما كما حدث في الثمانينيات. ومادمنا مصدرين للمعادن الثمينة والنادرة فلم لا يفكر جيشنا في صناعات عسكرية خفيفة أوثقيلة وتكوين أطر ضباط في سبيل ذلك بدل اللجوء إلى استيراد كل شيء حتى خراطيش الرشاشات؟ ليست ممارسة السلطة حكرا على المدنيين ؛ بل في التاريخ المعاصر شواهد على نجاحات فردية لضباط تركوا الجندية ومارسوا السياسة ونجحوا ؛ لكن تسييس الجيش متلازم مع عسكرة السياسة وهنا تكمن الكارثة دائما. في بلادنا نحتاج إلى عقد جديد في العقول قبل الأوراق يتأسس على جراحات الماضي وإكراهات الممكن دون تكلف ولا تزلف ولا تهور؛ حتى نحب بعضنا بعضا دون وجل ولا توجس؛ حينها سيكون لنا جمهورية وجيش جمهوري وستتضح المهام أكثر.