من المعلوم أن الأنظمة العسكرية تفرز "قانونها" الخاص[1]، بإحلاله بالقوة محل الشرعية السابقة، سواء أكانت ديمقراطية أم لا. والذي لا يعلمه إلا القليل أن هذه الأنظمة العسكرية يمكن أن تترك المجال لتعايش نوعين من الشرعية : "كتلة" تقوم على الشرعية السابقة، و"كتلة" تقوم على "الشرعية الجديدة"، وهو ما يمكن أن يؤدي عمليا إلى تعايش غريب بين آلية مؤسسية ناجمة في جزء منها عن نظام ديمقراطي، وفي جزء آخر عن آلية عنصرية خالية من أي شرعية ديمقراطية.
هذا "اليانوس المؤسسي" تحقق في موريتانيا في أعقاب انقلاب 6 أغسطس 2008 الذي شهد الإطاحة بالرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، المنتخب ديمقراطيا يوم 25 مارس 2007، واستبداله بلجنة من العسكر المنتظمين في الهيئة التنفيذية، أطلق عليها مجازا المجلس الأعلى للدولة (HCE)، برئاسة الجنرال محمد ولد عبد العزيز[2]. والميثاق الدستوري الصادر بتاريخ 13 أغسطس 2008، الذي تبناه هذا المجلس الأعلى للدولة، تاركا بوضوح مجال الاستمرارية في نفس الوقت مع هذه الهيئة لكافة المؤسسات الأخرى في النظام الديمقراطي السابق التي جاء بها دستور الجمهورية الصادر 20 يوليو 1991، وخاصة البرلمان بغرفتيه، ومعه المجلس الدستوري والسلطة القضائية برئاسة جديدة، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ...[3].
وبالتأكيد يمكن اعتبار كون الانقلاب – وهو ما لم يتردد بعض القادة السياسيين المعارضين للانقلاب في الإشارة إليه – أنه كان منافيا لدولة القانون، وأنه كان من الصادم مواجهة الأمر، مؤسسات ديمقراطية ومؤسسات إمبراطورية لا يمكن المواءمة بينها ! وفي السياق ذاته، فقد تأكد أن المؤسسة الرئاسية كانت مهيمنة على دستور 1991، بحيث لا يمكن التعرض لها، وإنما يمكن الطعن في المنظومة القانونية والمؤسسية الناشئة عن هذا الدستور. هذا الاستدلال منطقي جدا، ولكن يمكن أن نعتبر أيضا أنه إذا كان الانقلاب بالقوة يمكن أن يحذف بعض المؤسسات الديمقراطية، فلا يمكنه أن يسلبها مشروعيتها. وفي الواقع، يجب الاعتراف بأن هذا النظام الهجين الذي يجمع المتناقضات، عمِل على علاته، على الأقل من خلال وجود وتفاعل قطبين مؤسسيين كبيرين: سلطة تنفيذية في يد طغمة متحكمة منحدرة من السلطة العسكرية، هي المجلس الأعلى للدولة، ثم البرلمان المنحدر ديمقراطيا من النظام السياسي السابق. هذا الطراز السريالي، الذي يشبه المغالطة، تواجد مكمَّلا باستبقاء قاض دستوري حافظَ على كافة صلاحياته[4].
ينبغي تفحص هذه الظاهرة المؤسسية الجديدة عن قرب، وخاصة في أفق عودة الأنظمة العسكرية التي كانت تعتبر منتهية[5] إلى الواجهة في إفريقيا. ولذلك، نقترح عبر الأسطر التالية، دراسة وتقييم موقف المجلس الدستوري الموريتاني طيلة فترة النظام العسكري التي امتدت من 6 أغسطس 2008 لحد الانتخابات الرئاسية بتاريخ 18 يوليو 2009. هذا العمل ينبغي القيام به، وللمفارقة، فالمحكمة السامية، التي شكلت 1992، كانت أكثر نشاطا طيلة هذه الـ 11 شهرا المذكورة، مع اتخاذ عدة قرارات هامة، لم تتخذ مثلها في السنوات ال 16 السابقة [6] ! وعلاوة على ذلك، ففي إطار مسار عودة النظام الدستوري المفضل والذي بذل فيه الفاعلون السياسيون الوطنيون، تحت رعاية المجتمع الدولي ، الوسع للخروج من الأزمة[7]، فقد لعب المجلس دورا بارزا إلى حد ما يجدر قياسه بدقة.
بتنزلنا هذا في قلب جدلية القوة والقانون وإشكالية عودة النظام الدستوري في بلداننا المعرضة لتوغلات السلطات العسكرية في الحقل السياسي، فإننا نودّ الإشادة المستحقة بأخينا الأكبر الأستاذ بول تافرنيي، وهو المتحمس الإفريقي الذي لم يقبل أبدا غض نظره عن مسارات دمرقطة إفريقيا، وهو مجال يعرفه جيدا ويراقبه بيقظة، حيث يقيس الوعود بالكامل و الهشاشة في نفس الوقت[8].
هذا العمود الفقهي يشي بنمط فريد حيث يسعى جاهدة لمراقبة نشاط مؤسسة مبدعة لدولة القانون، ألا وهي القاضي الدستوري، في مواجهة صرامة سياق غير ديمقراطي. وهو ما يمكننا، فضلا عن جانبه المؤسسي، من إعادة النظر، في خلفية تطور النسق القانوني والمؤسسي للبلد طيلة الفترة المذكورة عبر دراسة قرارات المجلس الدستوري المتعلقة بتنظيم الروابط بين الفاعلين السياسيين (I)، والإصلاح الدستوري لخلافة رئيس الدولة (II) والإشراف على الانتخابات الرئاسية (III).
I) تنظيم الروابط بين الفاعلين السياسيين
1. دون أن يكون هنالك مجال للعودة هنا إلى ظروف تدخل الانقلاب العسكري 2008، يمكن التأكيد على أن النزاع بين الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله والقادة العسكريين الرئيسيين في نظامه، كانت خلفيته نزاع سياسي مفتوح بين حكومة الوزير الأول يحيى يحيى ولد أحمد الوقف والبرلمانيين، وخاصة في الجمعية الوطنية. في هذا النزاع، كان الوزير الأول مدعوما بمجموعة من الأحزاب، من بينها حزب عادل (برئاسة الوزير الأول نفسه)، التحالف الشعبي التقدمي (APP) بقيادة السيد مسعود ولد بلخير، رئيس الجمعية الوطنية، وتشكيلات سياسية أخرى[9]. هذه الكتلة يعارضها حزب تكتل القوى الديمقراطية (RFD) برئاسة رئيس المعارضة الديمقراطية السيد أحمد ولد داداه، وأحزاب أخرى عديدة[10]، وبرلمانيون عديدون في الأغلبية الرئاسية القديمة، التي أصبحت في قطيعة مع حزب عادل.
وهو ما غذى وأشعل النزاع بين رئيس الجمهورية و"الجنرالات"، وقد اتخذت هذه الضجة البرلمانية مسار جدل حول نظام الدورات البرلمانية الاستثنائية، والمسؤولية الجنائية لرئيس الدولة، وملتمس نزع الثقة وقضايا أخرى بارزة في القانون الدستوري[11]! وبعد أن انتهى الأمر بالحل الذي نعرفه من خلال انقلاب 6 أغسطس 2008، الذي وقع مباشرة بعد إقالة القادة العسكريين الرئيسيين، الذي لجأ إليه رئيس الدولة بعد اليأس، وستستمر على شكل آخر، سيضع في الواجهة مستقبلا الأغلبية البرلمانية الداعمة للسلطة العسكرية الجديدة [12] والمعسكر الرافض للانقلاب، والجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية (FNDD) [13]، برئاسية رئيس الجمعية الوطنية.
وفجأة قرر رئيس الجمعية الوطنية عدم ترؤس جلسات هذه الغرفة، كما امتنع نواب حركته عن المشاركة في أعمال الدورة البرلمانية الاستثنائية التي استدعتها السلطة العسكرية، في مسعى منه لاستراتيجية "حرب عصابات سياسية"، من خلال الاحتجاج على السلطة على جميع الجبهات، الداخلية والخارجية. ولمواجهة هذه المعارضة بنوع جديد فكرت "الأغلبية البرلمانية" في تعديل نظام الجمعية الوطنية من أجل أن يتيح لها عزل الرئيس مسعود ولد بلخير، وهكذا تم اللجوء إلى المجلس الدستوري.
2. تم عرض النسخة الجديدة للنظام الداخلي على المجلس الدستوري من قبل النائب الأول لرئيس الجمعية الوطنية، والذي هو عضو في "الأغلبية البرلمانية". وقد اعتنت، من بين إجراءات أخرى، بطريقة انتخاب رئيس وأعضاء الجمعية وبتعديل نظام شغور المناصب على مستوى مكتب الجمعية. بالنسبة للنقطة الأولى، أكد النظام الداخلي الجديد مبدأ الانتخاب برفع الأيدي الوارد إلى هذا الحد في هذا المجال؛ وبالنسبة للنقطة الثانية، أدرج أسبابا جديدة لشغور المناصب وخاصة "الخيانة" و "اختلاس الأموال العمومية"، والهدف من ذلك هو إتاحة عزل رئيس الجمعية الوطنية قبل نهاية مأموريته التي تحددها المادة 53 من الدستور بخمس سنوات.
فرد المجلس بقرار أول رقم 029 / CD / 2008 بتاريخ 2 و 3 ديسمبر 2008. وبخصوص طريقة الانتخاب، ألغى المجلس أحكام المادة (12) على أساس أن هذا النمط من التصويت لا ينبغي استخدامه في القرارات الشخصية. وبخصوص التعديلات على المادة 17، فقد اعتبر أن هذه الأحكام تعني حالات لا يمكن أخذها في الحسبان إلا بنظر قرار القضاء المتخذ وفق قوة الشيء المقضي به. عندها أعطت المحكمة السامية تعليمات دقيقة لإعادة صياغة الترتيبات التي تم رفضها، من أجل أن تتطابق مع الدستور.
وقد أقدمت "الأغلبية" في الجمعية الوطنية على هذه الصياغة وعارضت النظام من جديد على المجلس. وحسب تحريرها الجديد عددت المادة 17 أسباب الشغور (الوفاة، الاستقالة، وفقدان صفة النائب)، غير أنها أضافت مستقبلا "أي سبب آخر من شأنه أن يعيق ممارسة المسؤوليات أو الواجبات". واعتبرت المحكمة السامية في قرارها رقم 001 / CD / 2009 بتاريخ 7 يناير 2009، أن الجمعية لم تأخذ بعين الاعتبار تعليماته، لأن الصياغة الجديدة المقترحة، "تتيح بعموميتها، للمكتب أن يعتبر أن أي سلوك للرئيس أو لأعضاء من المكتب يمكن أن يكون سببا لشغور المنصب ". وعليه فقد رفضت هذه الترتيبات.
3. مساهمة قرارات النظام الداخلي للجمعية عامي 2008 و 2009 يمكن استخراجها في عدة نقاط.
قبل كل شيء، وعلى صعيد التقنية القضائية، فهي تضع بطريقة استدلالية على وجه الخصوص الرقابة بمعيار مزدوج حسب الصيغة الحسنة لـ دواييه فافوري، التي تتيح للمجلس الدستوري، في أعقاب رقابة مزدوجة، في مجال نظم الجمعيات والقوانين العضوية، من التحقق من أن التعليمات المقدمة في القرار الأول تم أخذها في الحسبان في القرار الثاني. وبالتأكيد لم تكن هذه المرة الأولى التي يقوم فيها القاضي الدستوري الموريتاني بمثل هذه الرقابة (المزدوجة)، كما تشهد لذلك قراراته السابقة، ولكن في هذه النازلة أفضت الرقابة في النهاية إلى عدم دستورية – وبذلك يمكن اعتبار أن الأمر يتعلق هنا بقرار حجب الثقة الأول لصالح المجلس منذ إنشائه في عام 1992 [14]!
وفي الأساس، فالقرارات التي تم تناولها ليست أقل شأنا لأنها في النهاية تؤكد على الاقتراع بالبطاقة السرية بالنسبة للقرارات الإسمية، التي سيتم اتخاذها مستقبلا، وذلك في قطيعة مع الفقه الدستوري. CONST. 002 / DC 17 و 22 يونيو 1992 وفق إجراءات تعيين رئيس وأعضاء مكتب الجمعية [15]. وهي تحمي كذلك مأمورية البرلماني بحمايته من نزوات وظلم الأغلبيات السياسية – وهذا،، كما تجدر الإشارة إليه، هو موضوع الرقابة القضائية الأولى للنظم الداخلية للجمعيات البرلمانية. وفضلا عن ذلك، يبدو أن المجلس قد اتخذ، وفق مقاربة "مذهبية" نابعة دون شك من حدة التجاذبات الدستورية التي سبقت وواكبت أحداث 6 أغسطس 2008، يجدر التذكير بالحلول التي وضعها في قراره الدستوري CONST. 001 / CD بتواريخ 15، 16 و 20 يونيو 1992 النظام الداخلي لمجلس الشيوخ، والتي حسبها فإن اقتراع حجب الثقة الوارد في المادة 75 من الدستور ينبغي أن يجري بالبطاقة السرية.
غير أنه يمكن التساؤل فيما لو لم يصدر المجلس الدستوري اجتهادا في هذه النازلة اجتهادا "منفصلا" لا يقتصر على التلميح أو يأخذ في الحسبان كما ينبغي السياق للحقبة، أي الانقلاب، والأسباب الخاصة لموقف رئيس الجمعية في هذه الظرفية. وفي الواقع، لاتخاذ القرار بقابلية استلام الرسالة، فقد اكتفى المجلس برسالة وجهت إليه من قبل نائب رئيس الجمعية الوطنية، ذكر فيها بالمادة 8 من الأمر القانوني رقم 92-003 بتاريخ 18 فبراير 1992، ووفقه "فنواب الرئيس يخلفون الرئيس في في حالة غيابه". ولكن في هذه النازلة، فموقف رئيس الجمعية لا يمكن قياسه على "الغياب"! ودون شك لا يمكن تأكيد كون هذا القرار والسياق الخاص كان غائبا عن اعتبارات الهيئة السامية، ذلك أنه كما مر معنا لم تتوانى هذه الأخيرة في استعراض "أي سلوك للرئيس أو لعضو المكتب ..."، ولكن في التحليل الأخير هذه الوضعية تترك المجال لصعوبة تطبيق النصوص الدستورية ذات البعد الديمقراطي على الوضعيات الخاصة التي يمكن أن تنشأ عن الانقلابات ... ومهما يكن، فقرار المجلس كان سارا لأنه بغض النظر عن بعده القانوني البحت، فقد "أنقذت" مؤسسة جمهورية، في سياق أزمة دولة القانون!
هذه التطورات تقودنا لتسليط الضوء على الموقف المختلف للمجلس حيال أحكام الأمر القانوني لسنة 1992 الآنف الذكر، ذلك أنه وظف المادة 8 من هذا الأمر القانوني – التي لها قيمة النظام الداخلي – في التحرير المختلف للترتيبات الموافقة للمادة 8 من هذا النظام التي تحد من مجال سلطة نيابة نائب الرئيس [16]؛ غير أن المادتين 5 و 6 من هذا الأمر القانوني تبينان بوضوح أن انتخاب رئيس وأعضاء المكتب يتم برفع الأيدي – والذي فرضه بالماضي على هذا النظام نفسه في قراراته السابقة [17]! ويمكن تأويل هذا الاختلاف في التناول بكون القانون العضوي المتعلق بتسيير الجمعيات لا يفرض على النظام الداخلي إلا بقدر ما يحترم الدستور ؟ غير أن المجلس لم يرد على ما يبدو التخلي عن اجتهاده السابق حول هذه النقطة، التي أشار إليها باستفاضة والتي أراد تطبيقها على النازلة، ومن الواضح أنه سلك هنا منعرجه الاجتهادي الأول ...
II) الإصلاح الدستوري لخلافة رئيس الدولة
1. وأمام معارضة داخلية نشطة للانقلاب و"مجتمع دولي" صارم، ومنظم بشكل غير رسمي في "مجموعة دولية للاتصال حول موريتانيا" [18]، تطالب بـ"عودة النظام الدستوري" العاجلة في موريتانيا، قرر العسكريون في السلطة، في أعقاب "الأيام التشاورية الديمقراطية"، أن ينظموا من جانب واحد وب مبادرتهم في يناير، تنظيم انتخابات رئاسية في 6 يونيو 2009. وفي إطار تنفيذ استراتيجية الخروج من الأزمة بالانتخاب، التي رفضتها المعارضة باعتبارها محاولة من جانب واحد لإضفاء المشروعية، ومن قبل المجتمع الدولي باعتبارها "غير كافية" (إعلان المجموعة الدولية للاتصال حول موريتانيا، باريس، 20 فبراير 2009)، قرر الجنرال محمد ولد عبد العزيز الاستقالة من وظائفه كرئيس للدولة (ل "وضع حد للانقلاب")، ومن وظائفه العسكرية (من أجل أن يتمكن من الاستجابة لمتطلبات المدونة الانتخابية التي تعتبر "العسكريين العاملين" غير مؤهلين). وكصيغة تكميلية، تتوقع هذه الخطة إعادة مراجعة سلطات المجلس الأعلى للدولة، الذي ينبغي أن ينتقل من هيئة تنفيذية إلى هيئة مكلفة بالدفاع والأمن الوطنيين، وزيادة على ذلك إنشاء لجنة انتخابية وطنية مستقلة مكلفة بالسهر على شفافية الانتخابات.
2. استقالة الجنرال محمد ولد عبد العزيز وإعادة تنظيم المجلس الأعلى للدولة تما يوم 15 أبريل 2009. وتمت استشارة المجلس الدستوري من طرف الوزير الأول برسالة في نفس اليوم من أجل "التأكد من وجود عناصر حالة شغور منصب رئيس الجمهورية".
وفي قراره الصادر ... في نفس اليوم، رجع المجلس الدستوري إلى طلب الوزير الأول، وإلى الدستور و... وإلى الأمر القانوني الدستوري بتاريخ 13 أغسطس 2008، الذي يحدد صلاحيات المجلس الأعلى للدولة ! وقد ذكّر بأن المادة 41 من الدستور تنص على أنه في حالة "شغور أو انشغال رئيس الجمهورية، تمكن استشارة المجلس الدستوري من قبل رئيس الجمهورية أو رئيس الجمعية الوطنية أو الوزير الأول". كما ذكّر أن المادة 40 من الدستور تنص على أنه "في حالة الشغور أو الانشغال النهائي المصرح به من قبل المجلس الدستوري، يتولى رئيس مجلس الشيوخ نيابة رئيس الجمهورية من أجل تسيير الشؤون الجارية".
وبمقارنة هذه الأحكام بأحكام الأمر القانوني الدستوري رقم 001/2009 بتاريخ 15 أبريل 2009 الذي أعاد تنظيم المجلس الأعلى للدولة، وفي أعقاب استقالة الجنرال ولد عبد العزيز، القاضي يعتبر "أنه ينتج عن هذه المعطيات وقوع شغور فعلي للمنصب الأعلى في الدولة، ومنصب رئيس الجمهورية ".
وقد اعتبر المجلس الدستوري آنذاك أن "منصب رئيس الجمهورية لا يمكن أن يبقى شاغرا ولو لحظة، بالنظر إلى الأضرار الخطيرة التي تنجم عن ذلك "، وهو ما يسم ه>ه المسألة بطابع الاستعجال كما أشار إلى ذلك. كما اعتب رمن جهة أخرى «أن الظروف العامة للبلد من> 6 أغسطس 2008 تكتسي طاعا استثنائيا يتطلب التعامل معها بقدر كبير من الحكمة والمسؤولية[19]، وفقا للقاعدة المعروفة في الشريعة الإسلامية، التي هي المصدر الوحيد للقانون، وفقا لديباجة الدستور، التي تنص على جلب المنافع وتجنب المفاسد، لا سيما إذا تعلق الأمر بجلب المنافع والابتعاد عن المفاسد >ات الطابع العام". وخلص المجلس في معرض قراره، أن "شغور منصب رئيس الجمهورية واقع بالفعل" وأن "رئيس مجلس الشيوخ يتولى نيابة رئيس الجمهورية لتسيير الشؤون الجارية".
3. على الصعيد السياسي، يثير هذا القرار ملاحظة قوية حول الرئيس ولد الشيخ عبد الله محتجا على "انشغاله" الخاص، كما أوحت إلى رئيس الجمعية الوطنية برسالة مثيرة للشفقة إلى رئيس المجلس الدستوري، يدعوه فيها إلى إعادة النظر في قراره[20]. وعلى الصعيد القانوني، كانت موضع انتقاد شامل من قبل الأستاذ محمد محمود ولد محمد صالح[21].
ومعنى ذلك أننا لن نعود بالتفصيل أكثر إلى هذا القرار، إلا من أجل التأكيد أنه في هذه النازلة فالرجوع إلى المادة 40 من الدستور التي لا تأخذ في الحسبان، على ما يبدو، الوضع المعقد - الناجم عن الانقلاب – والذي لم يشر إليه القرار إلا بتاريخه (6 أغسطس 2008)، كما رجع إلى الأوامر القانونية الاستثنائية المنظمة أو المعيدة لتنظيم سلطات المجلس الأعلى للدولة، لم تكن سارة جيدا، بحيث خلقت خلطا، بل قادت إلى وضعية مستبدة. ومن ثم تجدر الإشارة فضلا عن ذلك، على الصعيد الناظم، إلى أن المجلس الدستوري بهذا القرار أعطى قيمة قانونية كاملة إلى ديباجة الدستور؛ كما أشار الطابع الفريد لنهج القاضي الدستوري الذي تمثل في حل المشاكل القانونية "إيجابيا"، بالتذكير بمفاهيم ومبادئ القانون الإسلامي، واضعا بذلك حدا لـ"ضيق" واستقلالية النظامين المعيارين[22]، وهو ما لم يمر دون إثارة بعض تساؤلات حول تحديد مبادئ القانون الإسلامي المثار، وتراتبيتها والتوفيق بين أنواع المعايير. وفي هذا الصدد، على صعيد آخر، يمكن الحذر من أن يكون الرجوع إلى النظري الغامض لحصيلة التكاليف - المنافع، في ذكره "للشريعة" لم يجذب القاضي الدستوري الموريتاني على أرضية زلقة من السيطرة على الفرص ...
وخارجا عن هذه الملاحظات المقتضبة، فليسمح لنا بأن نستخدم هنا العبارات الواردة حول المسألة في هذه الفترة الكلمات هنا على مسألة دعم في وقت من قبل ... "طائر" ... الصحراء[23]. وفي هذا الصدد، وباستثناء النصيحة في هذه النازلة الموجهة إلى الهيئة السامية بالعيب المؤسسي الذي تمثل أيضا في الاستقالة أو في ثنائية القوى غير متكافئة، حيث قدر القاضي الدستوري، كما أشار إليه، الوضع الخاص بالنظر إلى المادة 40 من الدستور، ولاحظ متأسفا أن رئيس الجمهورية، السيد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، ليس في مقدوره ممارسة وظائفه لأسباب واقعية، معروفة لدى الجميع. وفي هذه الظروف، فباتخاذ الجنرال ولد عبد العزيز قرارا بـ "الانسحاب" الذي يتولى في الواقع – وليس بشكل مادي – السلطات الرئاسية، فكان بإمكان المجلس إيراد الحجج بالمثل كما في المادة 40 من الدستور، لمعاينة الانشغال "المؤقت (وغير النهائي)" (الذي يمكن أن يزداد أو ينقص)، الانشغال الفعلي[24] (في الواقع وليس في القانون)، للرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، ومن ثم تعيين خلف متمثل في شخص رئيس مجلس الشيوخ، والذي هو، باستثناء الرئيس سيدي، سيكون قانونا "الأقرب" لهذه الخلافة.
هذه الطريقة الأخرى للنظر تندرج ضمنيا في أفق التشبث بشرعية الرئيس المنتخب (وبالتالي رفض الانقلاب) والحاجة إلى ضمان استمرارية الدولة. وإذا كانت هذه الرؤية تأخذ بعين الاعتبار حقيقة الأمور كما فعل المجلس في قراره الصادر في 15 أبريل 2009، فإنها تهدد في نفس الوقت سبيل العودة إلى النظام الدستوري. كما أنها فضلا عن ذلك، تجنب المجلس الحاجة إلى التصرف، كما تعيّن عليه لاحقا، باستقالة ... الرئيس ولد الشيخ عبد الله - حيث صرح بأن المنصب "شاغر"! وفي الواقع، ففي إطار التجاذبات من أجل العودة المتشاور عليها إلى النظام الدستوري العادي في إطار اتفاق داكار (اللاحق) للخروج من الأزمة، انتهى الرئيس ولد الشيخ عبد الله بقبول التصريح علنا يوم 26 يونيو 2009، بحضور المجلس الدستوري في تشكيلة رسمية، باستقالته الإرادية من رئاسة الجمهورية. وإثباتا لهذه الاستقالة في قراره رقم 06-2009 بتاريخ 27 يونيو 2009، لم يكن لدى المجلس الدستوري إلا أن يخلص - منطقيا هذه المرة – إلى الشغور "بالمعنى القانوني" لمنصب رئاسة الجمهورية وأن يكلف (مرة أخرى) رئيس مجلس الشيوخ بالخلافة "اعتبارا من تاريخ الاستقالة (يا للغرابة)"، وهذا بناء على طلب جديد ... من الوزير الأول[25]!
ولكن يجب النظر إلى أنه لو كانت النازلة، الاستقالة اللاحقة للرئيس ولد الشيخ عبد الله قد سوت الوضعية القانونية، فإن هذه الوضعية لم تكن أقل استثنائية مقارنة بأحكام المادة 40 من الدستور، لأن الحكومة القائمة لم تكن تلك المعينة من قبل الرئيس المستقيل[26]. وفي هذا الصدد، وباعتباره سلطة قضائية دستورية مكلفة بالسهر على احترام الدستور، كان على المجلس أن يحدد العواقب القانونية العادية لقراره: فالخلف المعين، كما هو الشأن منط استقالة الرئيس[27]، فإن دستور الـ 20 يوليو 1991، استعاد حياته باعتباره نصا ديمقراطيا فعليا. ومن ثم وبتطبيق نظرية تغير الظروف بالقانون أو بالفعل – المعروف في القانون الدولي ولكن أيضا في القانون الداخلي – فالنصوص غير المتطابقة مع الدستور على ما يبدو توقفت عن التطبيق مستقبلا : يتعلق الأمر على وجه الخصوص بالأمرين القانونيين الدستوريين بتنظيم أو إعادة تنظيم سلطات المجلس الأعلى للدولة (وفي الواقع فالخلف يمارس كافة سلطات رئيس الجمهورية، خارج الاستثناءات الواردة في المادة 41 من الدستور، بما في ذلك مجال الأمن والدفاع)؛ ذلك أيضا هو شأن النصوص المعينة لحكومة ما بعد 6 أغسطس 2008، وكذلك النصوص الاستثنائية التي صدرت في إطار الأجندة الانتخابية الأحادية، أي النصوص المعينة لأعضاء اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، ومرسوم استدعاء الناخبين ليوم 6 يونيو 2009. نشير هنا إلى أن الصيغة تركت كافة الإجراءات الأخرى المطروحة، تحت طائلة ما يقتضيه الأمر من التعديل من قبل السلطات المختصة: وهو ما يفرضه استقرار النظام القانوني واستمرارية الدولة [28] ...
III) الإشراف على الانتخابات الرئاسية للخروج من الأزمة
1. المرحلة الانتخابية من مسار الخروج من الأزمة، الذي وضعته السلطة العسكرية، والمكون من انتخابات رئاسية يوم 6 يونيو 2009، تم الإشراف عليه من قبل المجلس الدستوري، وأعلن القائمة النهائية للمرشحين (وهم: محمد ولد عبد العزيز وكان هاميدو بابا، نائب رئيس الجمعية الوطنية؛ وإبراهيما صار صار، رئيس حزب التحالف من أجل العدالة والديمقراطية واسغير ولد مبارك، رئيس الوزراء السابق) وتابع التقدم المحقق في الحملة الانتخابية. وفي ه>ه الأثناء وأمام مقاطعة الانتخابات من قبل مرشحي المعارضة، كلفت مجموعة الاتصال الدولية حول موريتانيا الرئيس السنغالي عبد الله واد، في أعقاب محاولة فاشلة الأولى من العقيد معمر القذافي، بمهمة وساطة بين القوى السياسية الموريتانية للوصول إلى مخرج من الأزمة، من خلال مسار عملية توافقي لاستعادة النظام الدستوري.
وبعد مفاوضات شاقة، وقعت "الأقطاب السياسية الموريتانية الثلاثة الكبار" [29] في 5 يونيو 2009 على "إطار اتفاق داكار"، ضمن تدابير أخرى، من بينها تعيين الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله لحكومة وحدة وطنية، مكلفة بتنظيم انتخابات رئاسية مفتوحة للجميع، تم تحديد تاريخ الجولة الأولى، بـ18 يوليو 2009، في إشارة إلى المجلس الأعلى للدولة، و"ارتباط" مؤسسات الدفاع والأمن بالدستور[30]. توقع نص هذا الاتفاق للرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، من خلال صيغة مهذبة، "التصريح وصياغة قرار طوعي يتعلق بمأموريته كرئيس للجمهورية" (الاستقالة "الطوعية") وكذلك "أخذ آثار هذا القرار في الحسبان، بخصوص خلافة رئاسة الجمهورية من قبل رئيس مجلس الشيوخ[31] ".
وفور توقيع اتفاق داكار، تبنى الرئيس بالنيابة مرسوما يؤجل تاريخ الانتخابات إلى 6 يونيو 2009، ويعلن استدعاء الناخبين "لاحقا". وبعد ذلك وفي إشارة تمثلت على ما يبدو في رد الفعل بنفاد صبر الكتلة الداعمة للعسكريين في السلطة أمام التأخرات الملحوظة في مسار تنفيذ هذا الاتفاق، وهي تأخرات مرتبة بصعوبة الترتيبات البروتوكولية لاستقالة الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله التي لم تتم إلا يوم 27 يونيو، فتبنت نفس السلطة المرسوم رقم 2009-083 بتاريخ 23 يونيو 2009 المتعلق باستدعاء الناخبين يوم 18 يوليو 2009 لانتخاب رئيس الجمهورية. نطق هذا المرسوم بصحة الترشحات المقبولة للانتخابات المتوقعة أصلا يوم 6 يونيو، مع إمكانية انسحاب المترشحين الذين تم قبولهم؛ كما نص على أن "نظام المرشحين الذي وضعه المجلس الدستوري في قراره السابق يظل دون تغيير، والترشحات الجديدة [المضافة] تكملة لهذا الترتيب"، وحظر "الاعتراضات على الترشحات المقبولة سابقا"!
2. المرسوم الصادر بتاريخ 23 يونيو 2009 الذي لم يعرض على مجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية المنبثقة عن اتفاق داكار، وللسبب[32]! – تمت إحالته إلى المجلس الدستوري من قبل القادة الرئيسيين للمعارضة.
وفي قراره رقم 005/2009 بتاريخ 24 يونيو 2009، نطق المجلس الدستوري بأن "عدم تطبيق هذا المرسوم بسبب عدم دستوريته وخرقه للأحكام القانونية" ووصف تحويل قراره "إلى كافة السلطات المعنية لمعاينة التطبيق الحرفي طبقا للقانون". وللوصول إلى هذه النتيجة الحاسمة، قدرت المحكمة السامية أن ترتيبات المرسوم تتجاهل بشكل صارخ أحكام الأمر القانوني رقم 91-027 بتاريخ 7 أكتوبر 1991 المتضمن القانون الأساسي، وحسب هذه الترتيبات "يعد المجلس الدستوري القائمة النهائية للمترشحين ويحيلها إلى الحكومة"، وهذا مع أن "التسلسل القانوني الناشئ عن تفوق القانون حيال النظام ومنه أحكام القانون مقابل المرسوم". وحسب المجلس فهذه الترتيبات نفسها تتجاهل كذلك "المبدأ العام للقانون الذي يكرسه القانون الدستوري الحديث [33] والمصرح به في ديباجة دستور 1991، ألا وهو مبدأ الإنصاف وتكافئ الفرص بين المواطنين". وفي الواقع، يشرح أن "مبدأ المساواة بين المواطنين يؤدي إلى أن المترشحين بإمكانهم اتخاذ نفس الانطلاقة دون تمييز، وهو ما يفترض المساواة التامة في مجال الطعن المتعلق باللائحة الانتخابية أو بأي جانب آخر".
غير أن المحكمة السامية لم تتوقف هنا، فقد أوردت أيضا أن "المجلس الدستوري هو وحده المختص لتحديد من يحق لهم الطعن في كل ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية، وأيضا من أجل إعداد اللائحة النهائية للمترشحين، وأن اختصاصه محدد بالقوانين الأساسية ولا يمكن أن يتم بمرسوم (...). "كما تذكر أن : الفقه الدستوري أنشأ للمستقبل إلزامية استشارة المجلس الدستوري في كافة المراسيم المتعلقة بالانتخابات الرئاسية وبالاقتراع، وعلى وجه الخصوص المرسوم المتعلق باستدعاء الناخبين، وهو ما لم يؤخذ في الحسبان قبل نشر المرسوم رقم 2009-083".
إن قرار مرسوم استدعاء الناخبين الذي تم اتخاذه بسرعة استثنائية (في حدود 24 ساعة!) يستدعي عدة ملاحظات. وقبل كل شيء، لم يعبأ المجلس برسالة العارضين : فهل نحن أمام حالة من المبادرة الخاصة ؟ هذه الفرضية ليست واردة في النصوص ويبدو أنها تم القيام بها بتصور واسع في صلاحيات القاضي الدستوري، الذي وجد في مواجهة النصوص المسيرة للمجلس وفي مواجهة قراراته السابقة التي كانت المحكمة السامية عن طريقها قد قدرت أنه ليس لها إلا اختصاص المنح [34]. ومن جهة أخرى، فباعتبار المجلس قاضي الانتخابات يمكنه الاعتراف أن "كل مسألة أو استثناء مطروحين بالعريضة [35]"، فالنصوص لا تعترف له بإمكانية النطق قبل الانتخاب، حول هذه القضايا أو الاستثناءات، وخاصة حول المرسوم المتضمن استدعاء الناخبين. وفي هذا الصدد، لا يمكننا أن نمتنع من إجراء مقاربة بين قرار دلماس الشهير بتاريخ 11 يونيو 1981 [36]، الذي بموجبه وافق المجلس الدستوري الفرنسي على الاعتراف، قبل الاقتراع، بقانونية مرسوم استدعاء الناخبين لانتخاب نواب الجمعية الوطنية. وكما هو معلوم، فهذا القرار مؤول بالأعمال النزاعية "التي طعنت في شرعية كافة العمليات الانتخابية"، وأنه " إذا من الضروري، من أجل إتمام المهمة الموكولة إليه بموجب المادة 59 من الدستور، فالمجلس الدستوري يتعهد قبل الدور الأول من الاقتراع". هذا الاجتهاد كان ينبغي توضيحه لاحقا من قبل القاضي الدستوري الفرنسي في قراره رقم 16 بتاريخ 20 أبريل 1982، برنار وآخرين، بعبارات سيتم تناولها لاحقا والعمل بها في النازلة على علاتها في الانتخابات الرئاسية من قبل القاضي الموريتاني: "اعتبارا لأنه بموجب مهمة رقابة قانونية انتخابات النواب والشيوخ التي تكلها إليه المادة 59 من الدستور، فالمجلس الدستوري يمكنه استثنائيا البت، بناء على طلبات تطعن في مشروعية الانتخابات القادمة، وليس إلا في حالة ما إذا كان عدم القبول الذي سيواجه هذه بموجب أحكام المواد من 32 إلى 45 من الأمر القانوني الآنف الذكر بتاريخ 7 نوفمبر 1958 يوشك أن يشل بشكل خطير فعالية رقابة المجلس الدستوري على انتخابات النواب أو الشيوخ، وقد يعيب السير العام للعمليات الانتخابية، كما يمكن أن يلحق الضرر بالسير العادي للسلطات العمومية[37]".
وجوهريا، فقرار المرسوم استدعاء الناخبين ثري بإضافات كثيرة يشجعها حرص المجلس على إبراز كافة أسباب اختلال المرسوم الذي تم تناوله[38]: وخارجا عن التذكير – وعن العقوبة – بالقاعدة الأساسية لسلم المعايير، فهي بشكل حاسم "المبدأ العام" الذي هو مبدأ المساواة. حتى ولو كان هذا المبدأ في هذه النازلة مستوحا من ديباجة الدستور – وهو ما يؤكد مرة أخرى قيمته الدستورية، وقرار 2009 يبدو أنه أبرز إقداما معياريا للمجلس يؤكده من جهة أخرى الرجوع الجسور إلى "الاجتهاد الدستوري الذي سينشئ لاحقا الزامية استشارة المجلس الدستوري بالنسبة لكافة المراسيم المتعلقة بالانتخابات الرئاسية" ! وعلى الصعيد السياسي، وبالنظر إلى بيانات الرزنامة الزمنية، فالقرار الراهن لم يترك بديلا آخر للمتنازعين إلا إيجاد الطريق للحلول التوافقية حول اتفاق الخروج من الأزمة بتاريخ 5 يونيو 2009.
3. فقد توجب إذا انتظار تعيين تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الوارد في اتفاق داكار بتاريخ 26 يونيو 2009. وفي أعقاب دورة مطولة، وعلى ما يبدو مضطربة، فالبيان الختامي لأشغال الاجتماع الأول لمجلس وزراء هذه الحكومة، الملتئم بعد غد، أشار إلى تبني المرسوم المتعلق باستدعاء الناخبين يوم 18 يوليو 2009، وقد اتضح أن هذا المرسوم كان اجترارا محضا وبسيطا لسابقه! وكانت المعارضة قدرت أن هذا المرسوم كان قد عرض على مجلس الوزراء، غير أنه لم يكن موضع موافقة رسمية، توجهت من جديد إلى المجلس الدستوري. ودون أن يجيب مباشرة على العارضين، نشر المجلس يوم 28 يونيو 2009 بلاغا جاء فيه أنه "يخبر العموم أنه يفتح مداومة في مقره لإيداع الترشحات للانتخابات الرئاسية يوم 18 يوليو القادم، وذلك من يوم 28 يونيو 2009 إلى 30 يونيو 2009 [39] ". بهذا البلاغ الذي لم يشر إلى المرسوم الجديد [40]، تم التأكيد على الأمر: ستجري الانتخابات الرئاسية يوم 18 يوليو 2009! هذا البلاغ المقتضب والقرار – الضمني ولكن الأكيد – الناتج غير الإجماعي : ليس فقط أن القاضي لا ينبغي أن يصرح إلا بمداولة في الأشكال القانونية، ولكن في هذه النازلة، وكما لو كان اتفاق داكار قد أتاح غض الطرف عن المرسوم، فهو يقبل أن "التعامل مع" معايير أعلن قبل أسبوع عدم دستوريتها غير معترفة بسلطة قراراته الخاصة ويتمسك بها بصفة خاصة ليفرض نفسه على الجميع، بما في ذلك هو ذاته [41]! هذا الموقف غير مفهوم أكثر من ذلك، حيث أنه في هذه المرة فالعارضون يحتجون ليس فقط على الشرعية، وإنما على وجود المرسوم نفسه!
و"قرار" المجلس الذي انتهى بفرض نفسه، وخاصة بالتدخل الحاسم لمجموعة الاتصال الدولية - ولبعض البعثات الدبلوماسية "في خط المواجهة[42]" – الذي كان ضاغطا على ما يبدو بشكل خاص منذ نشر إعلان نتائج أشغال مجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية. وقد دخل الحلبة ستة مرشحين جدد، وهم السادة: أحمد ولد داداه، محمد جميل ولد منصور، اعل ولد محمد فال، رئيس سابق (2005-2007)، مسعود ولد بلخير، حمادي ولد ميمو، سفير، وصالح ولد حننا. بعد رفض طعن السيد كان حـ بابا لاعتبارات شكلية، حيث طعن في أهلية المرشح اعل ولد محمد فال [43]، بالنظر إلى وضعه كضابط (عقيد) عامل "لم يستقل بعد من الجيش"، أقدم المجلس على اعتماد كافة هذه الترشحات (القرار 07/2009، 1 يوليو 2009 الانتخابات الرئاسية). ورفض الطعن لأسباب شكلية لا يعفي المجلس من التأكد من أهلية كافة المرشحين لأن هذه المسألة ذات طابع عمومي، فبالإمكان إذا اعتبار أن هذه النازلة نطق بشأنها المجلس لأهلية المترشح. وحتى ولو كان هذا القرار يندرج في اتجاه مبدئ التأويل الحاسم لقواعد عدم الأهلية لصالح حرية الترشحات، فيمكن التأسف أنه بهذه المناسبة لم يقدم المجلس الأسباب الحقيقية والقانونية التي بررت قراره، مما يتيح إجلاء جانب هام من القانون الانتخابي الموريتاني، ألا وهو أهلية العسكريين، خاصة أن هذه المسألة تمت إثارتها خلال هذه الفترة بالنظر إلى أحكام الميثاق الإفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكامة المعتمدة من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي بتاريخ 30 يناير 2007، والمصادق عليها من قبل موريتانيا 2008، والتي لم تدخل حيز التنفيذ لحظة الانتخابات.
وقد جرى الدور الأول من الانتخابات يوم 18 يوليو 2009، وأعطت النتائج المؤقتة 52,58% من الأصوات للمترشح محمد ولد عبد العزيز، وتم إعلانها بعد غد من قبل وزير الداخلية. ثم تقدم المترشحون أحمد ولد داداه، ومسعود ولد بلخير واعل ولد محمد فال بطعون تدين من بين أمور أخرى الممارسات التي تعرض لها الملف الانتخابي، وظروف الاقتراع، وتقنيات إنتاج بطاقة الاقتراع. وفي إطار الرد طلب المجلس رأي اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات ووزير الداخلية حول القضايا المثارة في هذه الطعون. واعتمادا على جواب وزير الداخلية الذي ورد فيه "الطعن المقدم لم تتم تحليته بالأدلة المادية"، وبالنسبة للجنة مؤكدة أن "العمليات المتعلقة بالقوائم الانتخابية والاقتراع جرت في ظروف عادية وشفافة "، ومن ثم خلص المجلس إلى أن "المترشح محمد ولد عبد العزيز الذي حصل في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية 412608 صوتا، أي 52,58% من الأصوات المعبر عنها، أي الأغلبية المطلقة من الأصوات المعبر عنها المطلوبة دستوريا [قد] انتخب رئيسا للجمهورية" (القرار الدستوري 005/2009 ، 23 يوليو 2009 الانتخابات الرئاسية). وفي هذه النازلة، وحتى ولو كان وزير الداخلية قد تم تعيينه في حكومة الوحدة الوطنية من بين الوزراء المعينين من طرف المعارضة، وحتى ولو كانت اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات قد أعيد تنظيمها لتصبح هيئة توافقية عملا اتفاق داكار – كان على المجلس أن يستمع إليهما في حالة الطعون التنازعية، ومواقفهما لم تكن مفروضة دون شك على المجلس، وفي التحليل النهائي، فقاضي الانتخابات هو إذا على وجه الخصوص قاضي وقائع وقرارات وتقييم لمؤسسات في علاقتها بالانتخابات. وأخذا في الحسبان لخصوصيات انتخابات 2009، التي تندرج في إطار متشاور عليه للخروج من أزمة سياسية، ومن طبيعة النتائج المعلنة، التي تمنح الفوز في الدور الأول من الاقتراع، وللقوة القانونية التي ترتبط بقراراته الخاصة غير القابلة للطعن، كان المجلس قد استفاد من استخدامه المكتمل لسلطاته التي تعترف له بها طبيعة التحقيق في النزاعات الانتخابية الدستورية، كما يقال بهذا الصدد، لتجاوز النزاع [44] ...
** *
وفي ختام هذه الدراسة المقتضبة يستنتج أن المجلس الدستوري الموريتاني قام بنشاط مكثف ومتنوع خلال الأحد عشر شهرا من النظام العسكري الذي عرفته البلاد 2008-2009، ذلك أنه تم تسجيل ستة قرارات على الأقل[45] متعلقة بالرقابة الدستورية (قرارات النظام الداخلي للجمعية، الأول والثاني)، وحول وضع رئيس الجمهورية بالنظر إلى المادة 41 من الدستور (قرارات شغور منصب رئيس الجمهورية الأول والثاني)، وحول التنازع الانتخابي (قرارات مرسوم استدعاء الناخبين والانتخابات الرئاسية). وللمفارقة، فهذا النشاط المكثف في فترة مماثلة يضع حدا لفترة طويلة من "سُبات" المجلس لمسناها منذ قراراته الأولى 1992 [46]. والقرارات التي تم تناولها، بإضافتها الثرية نسبيا، تعرب بالنسبة لبعضها عن جرأة قياسية (قرارات النظام الداخلي للجمعية العامة) أو مفرطة (قرار مرسوم استدعاء الناخبين)، في حين يبدو أن أخرى تنبئ عن نفعية متفاقمة (قرارات شغور منصب رئيس الجمهورية) أو خيانة موقف الحد التلقائي في ممارسة الاختصاصات القضائية "الجارية" (قرار الانتخابات الرئاسية) – فضلا عن الاستراتيجيات الفقهية التي يمكن تقييمها، حسب الحالة، بالتشجيع، أو التفهم، أو التأسف، أو بالشجب صراحة. تصادم أو تواطؤ المجلس مع السلطة في تلك الفترة ؟ وإذا كان من الصعب المعرفة الدقيقة للطبيعة الحقيقة للعلاقات – المتغيرة – التي تربط في هذه اللحظة أو تلك القاضي الدستوري والحكام، ذلك أنها تستخدم في "الجوانب المظللة" من الدولة، فقد تمكن المجلس الدستوري الموريتاني من تمرير مسار التعايش الذي كان يبدو صعبا من الوهلة الأولى ، بتجنبه المصير الحزين للمحاكم الدستورية الإفريقية، المنسية لأنها كانت متسامحة كثيرا، مثل المجلس الدستوري الجزائري 1992، أو معصوفا بها لشدة جمودها مثل المحكمة الدستورية في النيجر 2009 [47] ... ومن ثم فهل تمكن عن قصد، أو دونه، من استيعاب ضغط استمرارية دولة القانون خلال فترة أزمة دولة القانون. وحول هذه النقطة، فمن المريح التفكير في أنه في النهاية لم تتمكن هذه المحاكم من تغيير "سير الأمور"، فقد مكنت قرارات المجلس الدستوري رغم بعض "التجاوزات"، أو النواقص، أو عدم الدقة، من تطوير تقنيات الرقابة الفقهية، ووضع وتنفيذ مبادئ وحقوق دستورية ربما برزت أو تم تحضيرها في القرار الأول من الفرض رقابة على العريضة البرلمانية، الذي صدر في فترة ما قبل النظام العسكري (قرار دستوري 001/2010 / DC بتاريخ 3 مارس 2010، قانون مكافحة الإرهاب) : ألا يمكن القول أن قرارات المحاكم العليا تعد أحيانا أكثر مما تعطي ؟... /.
أحمد سالم ولد بوبوط،
أستاذ مبرّز في القانون العام،
كلية القانون ب جامعة نواكشوط (موريتانيا)
نواكشوط، بتاريخ 11 يونيو 2010