“شرحبيل: أتقتُلُ مَلِكاً بِسوقة؟
أبو حَنَشْ: إن أخي كانَ مليكي”
(من أيام العرب)
***
“إن ساكاشفيلي هو جثة سياسية” (بوتين، أغسطس 2008)
-1-
في السياسة الموريتانية عِدّة مفارقات. لا يهدف هذا المقال إلى تعدادها أو حتّى حصرها. ولكن منها أن “الرئيس” الذي يبدو هو الأقوى في تاريخ البلد، إذ هندس عدّة انقلابات وفرض شخصه ونزواته على ما هو عمومي وما هو وطني، يبدو أيضاً الأضعف من بين معظم رؤساء البلد. من ذلك أنه فقد سيطرته على أغلبيتِه وفشل في تمرير أهّم قرارٍ راهن عليه في ولايتِه الطويلة. ففي 17 مارس رفض مجلس الشيوخ إقرار مشروع الجنرال عزيز القاضي بتغيير العلم الوطني وإعادة هيكلة المؤسسات الدستورية (بما فيها تسريح مجلس الشيوخ نفسه، و”استبداله” بهيئات استشارية جهوية). تاريخياً ما كان هذا النوع من القرارات ليستعصِيَ على ولد الطايع؛ ولا على اللجان العسكرية، ولا على ولد داداه. وكان يمكن أن يمضيَ دون حتّى جدل وطني. ومن المفارقات كذلك أن مجلس الشيوخ- الأقّل احتمالية ولكن النذير كأنه مايكل كاروليوني، بطل “العرّاب”- سرعان ما رمى بخنوعِه التاريخي وأصبَح هو قاتِل الملوك. أخيراً، من المفارقات أن أوجَع الضربات للجنرال عزيز لم تأتِه من المعارضة وإنما من أغلبيته التمجيدية. بدا الأمر كما لو أن شاعر البلاط طار فجأة إلى عنق الخليفة وبدأ يخنقه.
ومن الآن، وربما، فصاعِداً، يبدو الجنرال عزيز أقرَبَ إلى الجثّة السياسية أو، على الأقّل، للفحل الخَصِيّْ. فالمشاريع الأخيرة التي أرادَ تمريرَها اصطدَمت كلّها بإرادات سياسية تبدو أقوى منه وأفشَلتها. ففي البداية أراد، وقد أشرفت ولايتَه الثانية على الانتهاء، التمديد لنفسه. لقد رام هذا في مطلع 2015 عندما أراد مقايضة التمديد بمأمورية ثالثة مقابل إعطاء برلمان جديد للمعارضة. فقد أطلَقَ فجأة من شنقيطي أماناً سياسياً، عارِضاً حلّ البرلمان وانتخابات مبكِّرة تُدخل الأحزاب المقاطِعة في السياسة الرسمية. ولمّا بدا أن المعارضة لا تُريد فتح هذا النقاش، بدون ضمانات مُذلّة (بما فيها حلّ “كتيبة أمن الحرس الرئاسي”) أعاد طرح مشروعه بطريقة أخرى في 2016: أراد مقايضة رفع سنّ الترشح بفتح المأموريات. وسرعان ما جيّش وزراءه للحملة من أجل التمديد. وكان واضِحاً أنه يروم في هذا عقداً سياسياً جديداً مع مسعود ولد بولخير، زعيم التحالف الشعبي التقدمي، وحكيم السياسة، الذي له سلطة أخلاقية ومعنوية لا يستهان بها (رغم بعض الرضوض المؤخّرة). ولكن المشكِلة أن السيد بولخير لم يبدُ مهتماً بهذه الصفقة. تثائب. ثم اعتذر بلقاء وشيك.
أُسقِط في يد الجنرال؛ والتوى كاحله. ووصف أحمد ولد داداه بالأنانية. ولكنّه اضطّر ليكون عملياً. عرف أنه لا بدّ من المغادرة. أقرّ بذلك في خطاب غاضب. ثم أكّده للإعلام الغربي مرتَيْن. ولكنّه أراد تعويضَيْن: الأول نفسي والثاني أمني. فأراد في الأول أن يُعمّدَ ويُربَطَ اسمه بتاريخ البلاد ويومياتِها عن طريق تغيير العلم الوطني وتحويشه بشريطَيْن أحمرين؛ ولاحقاً، وربما بالتزامن، تغيير، أو تحوير، النشيد الوطني. ظاهرياً قدّم هذه الإجراءات أنها من أجل تخليد المقاومة. ولكن، نظراً لأن مساره الحكومي، لم يتسِم بأيديولوجيا أو حتّى فلكلور المقاومة، لم يقنع هذا أحداً. وكان واضِحاً أنّه يبحث عن تعويضٍ نفسي لمغادرته السلطة. وكان- كالشاه الشائخ- يبحث عن تتويج، عن كرنفال، عن تطويب. أما الثاني فقد أراد به خروجاً آمناً: أولاً توقيف سلطة البرلمان في مقاضاتِه عندما يخرج من السلطة (إلغاء محكمة العدل السامية) وتحويل اختصاص محاكمة الرؤساء إلى المحكمة العليا. بهذا يضمن انتقال أمر المحاكمة إلى جهاز قضائي أضيق وأطيع. كان- وهو المفاوض للتو لصالح خروجٍ آمن للديكتاتور يحيى جامي بأمواله ومسروقاته- يعرف جيّداً أهمية هذه الإجراءات (وخصوصاً عندما ينوي العودة للحكم ويُعادي البرلمان، الذي قد يكون معارضاً، حينئذ).
لقد انتزَعَ منه السابع عشر مارس هذه الأماني. ولم تكن هذه الأماني كبيرة بالمرة. بل كانت لتبدو ثمناً معقولاً لرحيله. ويجب ألا ننسى أن أحمد ولد داداه قد عرض عليه قبل سنوات أن ينجو بأمواله ويُغادر الحكم. لم يكن الجنرال يطلب الكثير، بل بدا كالمحكوم عليه بالإعدام الذي يريد أكل الشيكولاتة كآخر أمنية. ولكنه استراتيجية خروجه ارتبطت بأرزاق مجلس الشيوخ. وتماماً كما في إعدام روبسبيير فإن خوف البرلمان من الحاكم القوى هو ما قطع عنقه.
-2-
ليست هذه أول مرة لا تصطدِمُ بها قوانين الجنرال عزيز بإرادات سياسية أقوى منها. تحديداً هذه هي ثالث مرّة يحدثُ فيها هذا. ففي 2010 قدّم الجنرال من خلال حكومتِه مشروعَ قانون لمكافحة الإرهاب. المعارضة اعتبرت القانون غير دستوري لأنه يتيح للشرطة سجن المُتَهَمين إلى غير أجل ويُعطي للشرطة حقّ سلب ونهب ممتلكات المشتبه فيهم وتعذيبهم. البرلمان- طيِّعاً وغيرَ مبالٍ- صوّت حينئذٍ بالموافقة للقانون. ولكن المجلس الدستوري نقضه. إلى حدِّ الآن لم تُكتب القصة كاملة. هل تراجع الجنرال عن القانون وغلّف التراجع بإجراء دستوري؟ هل اعترضَ عليه المانحون والمؤسّسات الرقابية الدولية والبعثات الديبلوماسية فأُلغِيَ بهذه الطريقة التي تحفظ ماء وجه الجميع؟ أم أن المجلس الدستوري، الذي ضمّ في حينه أعضاءً في مأموريتِهم الأخيرة، واجهوا القانون بيقظة ضمير؟ لا أجوبة.
وفي مطلع يناير الماضي قدّم حكومة الجنرال عزيز مشروعاً لقانون العنف ضدّ النوع. القانون اعتُبِرَ ليبرالياً، وإن كان قد ضمّ عقوبات الرجم. فكرته كانت تحصين المرأة من الاغتصاب ومن الزواج قبل سن 18 ومعاقبة المغتصِبين، أحياناً بالإعدام. تاريخياً لم يطرح تمرير هذه القوانين مشكلة لولد الطايع، مُمرِّر “مدونة الأحوال الشخصية”. ولكن الجنرال عزيز كان قد خلقَ بسياساته الناعمة حركة أصولية قوية. فقد رَفع منبر الجمعة إلى مقام شبه دستوري صار من خلاله من سُمِيَ بـ”مُفتي الجمهورية”، وهو فقيه سلفي راديكالي، يتكلّم في السياسة أسبوعياً بثنائية “الحلال” و”الحرام”: وهكذا تمّ إلحاق المنبر بالمؤسّسات الدستورية والإعلامية. وكانت القنوات التابعة للجنرال عزيز ولرجالات أعماله قد خلقت أبطالاً يوميين ومُحلِّلين ومُحرِّمين من رجالات الدين الراديكاليين. وسرعان ما سيطَرَ هؤلاء أيديولوجياً على الرأي العام وصاروا آباء روحيين للفاعلين السياسيين وبالأخّص لبرلمانيي 2014، المعروفين، من بين أشياء أخرى، بعدم الكفاءة وبضحالة المستوى. حرّم “مفتي الجمهورية” (المنصب غير موجود رسمياً وإن كان متداولاً أنه كذلك) قانون النوع؛ وتحالفت الاصوليتان: أصولية الجنرال عزيز وأصولية المعارضة على إبطال القانون. وما إن تأكّد أن القانون غير قابل للتمرير بفعل المداخلات الأصولية شبه الإجماعية حتّى قامت الحكومة بسحبه.
-3-
عموماً ليس من غير النادر عدم انهزام الجنرال عزيز سياسياً: في 2012 هزمه طلبة المعهد العالي للدراسات الإسلامية عندما أراد تحويل معهدِهم إلى الداخل. يوميات من المواجهة أجبرته على وفي 2015 أجبرته حركة شعبية على محاسبة ولد اجيرب، الذي أفلت ابتدائياً من العقاب بعد إطلاقِه الرصاص على بائع برتقال. وفي 2016 أجبرته حركة أخرى على إعادة فتح ملف “زيني” المقتول في ظروف غامضة. وفي 2017 فشل في تمرير استتابة ولد امخيطير عبر القضاء وتمرّدت عليه المحكمة العليا. وصحيح أنه انتصر على الحركات الشعبية في القضايا الأهّم في “الترحيل” (2012) و”الكَزرة” (2016) وانتفاضات العمال والحمالين (2013-2015) و”حي بوعماتو” (2016) و”بيع المدارس” (2016) وحركات “ماني شاري كَزوال” (2016)؛ ولكنه ليس خارقاً سياسياً. وتماماً كما دفعَ الجزية للقاعدة فإنّه أيضاً دفع المداراة للرأي العام الفيسبوكي بشراءِ ذممه وأعيانِه والنزول على رأيه. ليس من النادر هزيمة الجنرال عزيز سياسياً. ولكن ما نتحدّثُ عنه هنا هو تعطيل مشاريع قوانين حكومة ذات أغلبية. وبالأغلبية نفسها.
-4-
ما حدث في 17 مارس هو مظهر من مظاهر أزمة في نظام المكافأة السياسية، الذي طبع العقد السياسي الموريتاني منذ “العهد الديمقراطي”. تاريخياً لم تفشل الحكومات الموريتانية في السيطرة على الدولة، وبالأخصّ على مؤسّساتِها. ليس السبب ديكتاتورياً صرفاً فحسب. وإنما هو رَيْعي: الحُكومة، المُسيطِرة على الرَيْع تتحكّم في المناصب لأن المناصب والتعيينات ليست استحقاقية وإنما تمرّ بتزكيات الحكومة وبعقدها السياسي مع الفاعلين. ويصدقُ هذا حتّى على المناصب الانتخابية في كثيرٍ من الولايات التي ما زال التصويت فيها قبائلياً وتتحكّم الحكومة في تصويتات زعماء القبائل لأنها تتحكّم في الريع (الأعلاف والماء والتمدرس والمحاصصة والأجور) الذي يُعرِّفُ القبيلة سياسياً. لقد عُرِفَ هذا النظام في أيام ولد الطايع باسم “القبلية السياسية”؛ وبفضله استطاع النظام دوماً هزيمة سياسة الطبقة الوسطى بالمدن والعواصم بانتصارات تصل إلى 90% في الأرياف وفي الولايات. وهكذا همّشت دوماً المعارضة وجعلتها ظاهرة مدنية وعواصمية.
غير أن ظاهرة اجتماعية لوحظت منذ التسعينيات: نِسب انتصارات الحكومة في الأرياف والولايات بدأت تنخفِضُ حثيثاً وببطْ حتّى وصلت إلى السبعين بالمائة في أيام ولد الطايع الأخيرة والخمسين بالمائة فيما بعده. يعني هذا أن النظام إذا فشلَ في المدى البعيد في موازنة انتصارات المعارضة في المدن بأغلبية مُريحة في الولايات فإن فكرة الانتصار التلقائي للسلطة في الانتخابات ستختفي. وهذا سيعني مولِد الديمقراطية الموريتانية في حياتِنا.
إن أي تفكير انتصاروي تقدمي سيرى في هذا المسار انتصار الوعي على الاستبداد. ولكن الواقِع أن القصة أكثر تعقيداً. وهي ناجمة أكثر من تناقضات في النظام السياسي منها عن أي شيء آخر. فعلى أيام ولد الطايع كان ما سماه الأنثروبولوجيون الاستعماريون بالانقسامية تفصل القبائل إلى شقَيْن سياسيَيْن متصارِعيْن. ولكن الشِّقَيْن المتنافِسَيْن بايَعا، لأسباب رَيْعِيَة، نظام ولد الطايع. وهكذا كان مَعلماً أساسياً من السياسات الطائِعية تقسيم المناصب البلدية والنيابية بين القبيلة الواحدة، أو بين القبيلَتَيْن إن تعايشتا، وتصارعتا، في منطقة انتخابية واحدة. وكان ولد الطايِع يُعطي منصب عضو مجلس الشيوخ للقبيلة الثالثة، الأضعف. أما في حالة كان الحضور القبلي رُباعياً أو خماسياً في المنطقة الانتخابية الواحدة فإن ولد الطايِع كان يتبرّع بمناصِب بيروقراطية سامية أو ديبلوماسية للمغلوبين ليُبقيَ الجميع في شبكة ولائه. وفي حالات معينة كان ولد الطايع يسمح لطرف معانِد من القبائل أن يترشّح تحت يافِطة أحزاب الأغلبية وينتصِر، دون أن يذهب ولاؤه لغير ولد الطايِع.
كان نظام المكافأة السياسية لدى ولد الطايع مُعقّداً؛ ولم يكن ميكانيكياً بالمرة. فكان يُبدِّلُ أفراد الحكومة بمعدّل مرّة كلّ ستّة أشهر، ويُعيِّن في مجلِس الوزراء بمعدّل أسبوعي، ما كان يُتيحُ فرصة لمكافأة المؤيِّدين ومُعاقبة العنيدين وتعيين المُنتخَبِين، الذين بذلوا الأموال السياسية في الانتخابات، في مناصب تسييرية. وهنا سرعان ما يُعوِّضُ المُعَيّنون أموالَهم بالصفقات السياسية وبتعيين حلفائهم، الذين يُسدون لهم الخدمات في المقابل.
ومع رحيل ولد الطايع بدأ النظام يدخل في أزمة. أولاً لم يعد المُنتخَبون قادرين على استعادة كلّ أموالِهم من السياسية، ناهيك عن الأرباح منها. وثانياً، لم يعد كلّ الأطر (أي كلّ حملة الشهادات العُليا) يُعيّنون تلقائياً في إطار القبلية السياسية. وفي مفاوضات داخلية في النظام رفض سيدِ ولد الشيخ عبد الله تعيين أو تمكين المُنتخَبين، الذي استثمروا كثيراً في انتخابات 2006، ما أدّى إلى أزمة عُرِفت بـ”أزمة الثقة”، انتهَت بتحالُف المُنتخَبين مع العسكر، وهندستِهم لانقلاب عسكري في أغسطس 2008.
ومؤقّتاً حلّ الجنرال عزيز أزمة نظام المكافأة بمكافأة النواب بصفقات مالية ردّت لهم أثمان حملاتِهم الانتخابية. ولكن الأزمة كانت أعمق. فما سماه المُستعمِر بالانقسامية كان نبوءة تُحقِّقُ ذاتَها بنفسها. وصارت الانشقاقات السياسية تتزايد، مُشكِّلة أربع انقسامات في القبيلة الواحدة. أما زيادة نِسب التخرّج فقد أدّت إلى زيادة عدد الأطر في القبيلة الواحدة. ولم يعد من المُمكِن احتواء كلّ هذه الفئات المُنقسِمة في نظام واحد. ردّ نظام الجنرال عزيز بطريقتَيْن: الأولى خلق أربعة أحزاب للنظام (الاتحاد من أجل الجمهورية، الذي يُقدِّمُ المُرشّحين الرسميين للنظام، حزب الحِراك الشبابي وحزب الوحدة والتنمية، اللذين هما انفصال شبابي داخل الحزب الحاكم، يُقدِّمان ترشيحات شبابية تروم انتزاع المكانة من الحزب الحاكم، حزب الكرامة، الذي يلعب دور أحزاب الأغلبية الطائعية، التي تستقطِب المُغاضِبين وتمنع سقوطهم إلى المعارضة). أما الثانية فكانت اقتراح جسم تمثيلي جديد، جهوي واستشاري يستطيع به الجنرال عزيز إبقاء القبائل في فلك الحزب الحاكم. نعرِف أن الطريقة الثانية لم تر النور وأُسقِطت في 17 مارس.
كان نظام الجنرال عزيز قد حاول إبقاء كلّ الأطراف مُعاهِدة وموالية للنظام بالوعود. ولكنّه أطلَق كثيراً من هذه الوعود لكلّ أحد. وبالتالي سقط في متلازمة عرقوب: فقدت الوعود قيمتَها وبدا أنها استراتيجية تسويف وتطويل. ولد الطايع كان رجل كلمة. حارسه لم يتعلّم منه ذلك. أضِف إلى ذلك أن كثرة الاستقطاب السياسي داخل المجموعة الواحدة وتناقص الوظائف جعل الجنرال عزيز غير قادِر على الحِفاظ على نظام المكافأة السياسية القديم. زِد على هذا دخول قوى سياسية جديدة في اللعبة: رجال الأعمال والعسكريون الذين أصبح لهم نصيب أسبوعي من المحاصصة، ما زاد من أكلة القصعة دون أن تكبر القصعة نفسها. أضِف لهذا أن الحكومة، بفعل ضغط النقد الدولي، بدأت سياسة تقشّف بدأت فيها تعرض المغادرة الطوعية على الموظّفين، وبدأت ترفض استخدام المتقاعِدين (بعد أن كانت تكافؤهم في تعيينات سياسية). والقصة التي قصمت ظهر البعير هو ان المجموعات السياسية والقبلية لم تعد قادرة على السيطرة على أتباعِها بفعل ظهور الرأي العام الفردي والأيديولوجي وظهور أنظمة جديدة للاستقطابات والتعبئة. كلّ هذه الجهود جعلت النظام غير قادِر على تعويض الشيوخ ومكافأتِهم سياسياً. وصحيح أن النظام عرض رشوة متمثِّلة في توزيع الأراضي على الشيوخ والنواب قُبيل حلّ مجلِسِهم. ومن المحتمل أنه عرض إعادة ترشيحهم في استحقاقات قادِمة. ولكن هذا لم يكن كافياً. الشيوخ يريدون أكثر؛ والنظام لا يقدر على الأكثر. انهار نظام المكافأة.
-5-
عوامل عدة: تشعّب الانقسامية، تآكل نظام التبعية السياسية، انهيار نظام المكافأة السياسية، وظهور سياسات بديلة للقبلية السياسية (القومية العرِقية ممثلة باليمين البيضاني والحرطاني والبولاري)، ودخول طوائف سياسية جديدة على المحاصصة السياسية (العسكر ورجال الأعمال وأحزاب الشباب) كلّ هذا سيضعِف من دولة ولد الطايع الكبيرة، المًسيطِرة سياسياً. وفي المقابل ستضعف الآمرية السياسية لهذا النظام. وسيتعامل خلفاء الجنرال عزيز، ما لم يتقوّى الرّيْع السياسي بمداخيل كبيرة، مع تقاطع المصالح، بل والحروب الأهلية، في داخل الأغلبية، ومع تشتّت الأغلبية في وجه القوى السياسية المعارضة. ورغم أن الرئيس يمتلك صلاحيات هائلة في النظام الدستوري الموريتاني إلا أن قواه الخارِقة، وبالأخصِّ قدرته على هندسة كلّ المشهد السياسي، ستتضاءل كثيراً. وإذا أخذت الديمقراطية الموريتانية مساراً طبيعياً في السنوات القادمة فسيتم انتزاع صلاحيات الرئيس في التعيين الأسبوعي في البيروقراطية وتعيين أعضاء الحكومة بدون التصويت عليها من البرلمان؛ وسيتمّ تفعيل آليات متابعته ومحاكمته؛ وسيتمّ نزع يده من السياسة المحلية في الأرياف والولايات وترتيب نظام لامركزي واستحقاقي فيها. ساعتَها سيكون الرئيس جثة سياسية. برأيي أن ذلك سيكون خبراً جيّداً.
المقال الاصلي، بعنوان: جثة سياسية
تقدمي
للكاتب: أبو العباس ابرهام