تسعى تركيا تحت قيادة رجب طيب أردوغان للاستثمار في أزمات الدول الأفريقية من أجل تعزيز تمددها في القارة الغنية بالموارد الطبيعية وضمان موطئ قدم داخلها خدمة لأجنداتها التوسعية.
ويمثل الاستثمار داخل القارة الأفريقية أهم أشكال النفوذ الناعم التي تعتمدها أنقرة في علاقاتها الخارجية، إلا أنه ليس السبيل الوحيد إلى ذلك فالمعطى الديني أيضا عامل مهم لتكريس النفوذ وخلق كيانات موالية داخل الدول المستهدفة.
وبحث مسؤولون أتراك وموريتانيون الخميس فرص الاستثمار وسبل تعزيز التعاون بين البلدين، وسط اهتمام تركي بالبلد الأفريقي الغني بالثروات البحرية والزراعية.
وناقش الوفد التركي مع ممثلين عن الحكومة الموريتانية المشاريع الراهنة وتلك الجاري تنفيذها في القطاع المعدني، وفرص الاستثمار التي يوفرها مناخ الأعمال الملائم في موريتانيا.
وحاولت أنقرة تقنين مطامعها في الثروات الموريتانية عبر توقيع اتفاقيات في مجالات الهيدروكربون والمعادن والصيد والاقتصاد البحري والزراعة والسياحة، لكنها في الواقع اتخذت منها مدخلًا لممارسة أسوأ أنواع الاستنزاف لتلك الثروات، وبالأخص الثروة السمكية التي يزخر بها الساحل الموريتاني المعروف بأنه أغنى مناطق العالم بالأسماك بفضل العوامل المناخية التي توفر ظروفا ملائمة لنمو الأسماك، حيث نفذت السفن التركية عمليات صيد جائر بواسطة الشبكات الدوارة وسفن الصيد العملاقة التي تستخدم شباكا قادرة على جرف جميع الأحياء البحرية، بما فيها الأسماك النادرة الممنوع صيدها، مخالفة بذلك الاتفاقية التي وقعت عليها مع الحكومة الموريتانية والتي تسمح بالصيد في المياه السطحية فقط التي يبلغ طولها 700 كيلومتر، ومخالفة للنظم الدولية الخاصة بالتوازن الحيوي للبحار والمحيطات.
ويحظى الموقع الجغرافي لموريتانيا، التي تعرف رسميا بالجمهورية الإسلامية الموريتانية، بأهمية خاصة لدى تركيا، فهي تقع شمال غرب أفريقيا وعلى شاطئ المحيط الأطلسي وتعدّ همزة وصل بين شمال أفريقيا وجنوبها.
وتشهد العلاقات بين أنقرة ونواكشوط تطورا لافتا، منذ الزيارة التي قام بها أردوغان إلى موريتانيا في 28 فبراير 2018. وتوجت تلك الزيارة بتوقيع عدة اتفاقيات بين البلدين في مجالات المعادن والصيد والاقتصاد البحري والسياحة، بالإضافة إلى مذكرة تفاهم في مجال الزراعة واتفاقية حول حماية وتعزيز الاستثمارات المشتركة.
وبدت تلك الزيارة الأولى من نوعها لرئيس تركي محطةً لفتح الباب أمام الاهتمام التركي بذلك البلد الذي يقع في منطقة استراتيجية على المحيط الأطلسي وبالقرب من منافذ بحرية هامة للتجارة الدولية، ويعد بوابةً لدول حوض نهر السنغال.
وتستهدف تركيا من تحركاتها في القارة الأفريقية اقتناص فرص استثمارية داخل القارة التي تشكل محور اهتمام إقليمي بفعل صعودها الاقتصادي اللافت، خصوصا مع اقتراب موعد تركيز منطقة التبادل التجاري الأفريقي التي ستخلق تنافسا تجاريا كبيرا. ويتوقع أن تسهم المنطقة في رفع نسبة المبادلات التجارية بين الدول الأفريقية إلى 52 في المئة وتعزيز الصادرات الزراعية والصناعية.
وتشير بنود الاتفاقية إلى أنه على الدول الموقعة تحرير 90 في المئة من الحركة التجارية وباقي التوافق بين الحكومات سيكون على قواعد المنشأ. وبموجب الاتفاقية ستضم منطقة التجارة الحرة ثلاثة تكتلات قائمة هي السوق المشتركة لدول شرق أفريقيا وجنوبها ومجموعة شرق أفريقيا ومجموعة تنمية أفريقيا الجنوبية.
وتلقى الوعود التركية بمساعدة موريتانيا اقتصاديا أصداء إيجابية لدى المسؤولين المحليين بعد انحسار الدعم الخليجي لهذه الدولة، ما مكن أنقرة من الاندفاع سريعا صوبها وإيجاد موطئ قدم لها هناك.
وتقوم تركيا بتعزيز تواجدها في موريتانيا من خلال الجانب الديني أيضا تحت عنوان تدريب الأئمة، وكذلك من خلال المنظمات الخيرية دعما لجماعات الإسلام السياسي التي بدأ نفوذها ينحسر في عهد الرئيس السابق محمد ولد عبدالعزيز.
وفي أحدث تحرك تركي في أفريقيا، في سياق مسار تمدد لا يهدأ، دشنت أنقرة في العاصمة الموريتانية نواكشوط مؤخرا حلقة جديدة من محاولات بسط النفوذ من بوابة التعاون الديني، وهي لا تختلف كثيرا عن منافذ أخرى تخترقها تحت عنوان المساعدات الإنسانية والإغاثية.
وتدريب الأئمة أو العمل الإنساني الإغاثي وافتتاح المدارس الدينية والتعليمية أقرب وأسهل طريق للتسلل إلى النسيج الاجتماعي في موريتانيا المثقلة بأزمات اجتماعية واقتصادية وتكابد لإرساء السلم الأهلي.
وتعود تركيا إلى الساحة الموريتانية من هذه البوابة على أمل ترسيخ أقدامها وفتح منفذ جديد للتغلغل في واحدة من الساحات الأفريقية التي تشهد تجاذبات سياسية بين السلطة والإسلاميين.
وفي 2018 شرعت السلطات الموريتانية في تطويق أنشطة قيادات الإخوان المسلمين، بعد قيامها بإغلاق أكبر المراكز التابعة لهم، على خلفية شبهات تحيط بممارسات هذا التنظيم ومصادر تمويله واتهامات تلاحقه بالحضّ على العنف ونشر التطرف بما من شأنه المساس باستقرار وأمن البلاد. وأغلقت موريتانيا جامعة “عبدالله بن ياسين” الخاصة المملوكة للإسلاميين والتي يديرها القيادي في جماعة الإخوان المسلمين الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وقامت بسحب الترخيص منها، وذلك بعد أيام على إغلاق مركز “تكوين العلماء” وهو أكبر مركز تابع لجماعة الإخوان بموريتانيا.
وتعمل تركيا على التسلّل إلى عدد من دول القارة السمراء من خلال تبنيها سياسة الانفتاح عليها وفق مبدأ “رابح رابح”، بحيث توحي بأنّ الدول الأفريقية أصبحت بشكل عام شريكا أساسيا لها في الوقت الذي تقوم فيه بممارسة تغلغلها الهادئ في ثنايا مجتمعات هذه الدول وإنشاء كيانات تابعة لها، سواء أكان ذلك من خلال الجمعيات الإسلامية أم عبر الشركات الاستثمارية.
ويأتي الانغماس التركي في موريتانيا كجزء من سياسة أوسع لتثبيت موطئ قدم في القارة الأفريقية، حيث تسعى أنقرة مؤخرًا لاقتحام ساحات جديدة بعد الخلافات التي نشبت بينها وبين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على خلفية سياساتها التوسعية في شرق المتوسط والتعاون العسكري مع روسيا.
وتبدو الساحة الأفريقية الأكثر سهولة من ناحية الاختراق كونها ساحة تنخرها الصراعات الإثنية والقبلية وتواجه أزمات اقتصادية واجتماعية مستفحلة.
وتنخرط أنقرة في استراتيجية طويلة الأمد لإنشاء علاقات وطيدة مع دول الساحل وغرب أفريقيا، وتسعى من خلالها لتوسيع نطاق نفوذها وحضورها السياسي والاقتصادي والعسكري في القارة الأفريقية بعدما عززت وجودها في منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي من خلال بوابة الصومال، الأمر الذي قد يفاقم حدة التوترات في المنطقة التي تعد مسرحاً للعديد من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة.
صحيفة العرب