في يوم الأحد 17 مايو 2020، ومن داخل إحدى غرف المستشفى الرئيسي في دكار، غادرنا مدون لو بهدوء تظلله كرامته المعتادة رغم المعاناة من آلام الحرمان من الجنسية الموريتانية التي سبق وأن اختارها قبل 58 عامًا.
ولد في دارو موستي، في الـ 8 فبراير 1941 بولاية باوال (السنغال)، مهد الطريقة المريدية، وله إضافة إلى ذلك صلات صداقة وثيقة بمنطقة دياكيلي. لقد تربى في كنف الإداري إسماعيل سي، أول إداري أفريقي يتم تعيينه في منصب قيادي في موريتانيا خلال فترة الاستعمار، وكان هذا الأخير صديقا حميما لوالد الطفل مدون لو.
تربى مدون لو على يد الإداري إسماعيل لو، يحل معه حيث يتم تحويله، يجوب موريتانيا طولا وعرضا، متابعا دراسته حيثما حل ولي نعمته. وعند الاستقلال، كان حاضراً في موريتانيا، بلده الذي أحبه أكثر من أي بلد آخر.
وبقرار طوعي منه، وبناءً على ارتباطه بهذا البلد الذي كان وعاء مراهقته وتربيته، مارس بكل حرية، في فاتح نوفمبر 1962، وفقًا للقانون، وأمام رئيس المحكمة الابتدائية في نواكشوط، حقه في إعلان اختياره للجنسية الموريتانية.
تزوج مدون لو السيدة ساتا انجاي، الأخت الصغرى لسيد المختار انجاي، أحد مؤسسي الدولة الموريتانية، ومن زواجهما ولد أربعة أبنا نشأوا كلهم في موريتانيا. كان مدون أبًا محبًا، وزوجًا حنونًا، ورجلًا مسؤولًا، وشيخًا جامعا، وكانت له صلات متجذرة في منطقة باوال.
كان مدون لو أول مهندس في مجال الهندسة الجوية والبحرية في موريتانيا، وهو الرجل الذي منح إذاعة موريتانيا واجهة لائقة وصوتًا مدويا عبر الأثير.
شغل منصب المدير الفني لإذاعة موريتانيا لعدة سنوات، وتعد البنية التحتية الأساسية للهندسة المدنية والمعدات التقنية لمؤسسة الإذاعة الموريتانية إنجازات ساهم في تحقيقها.
في عام 1980، وبموجب المرسوم رقم 0519 المؤرخ 26 أغسطس 1980، انتدبت الحكومة الموريتانية مدون لو مديرا للمركز الفني لاتحاد الإذاعات والتلفزيونات الوطنية الأفريقية (URTNA)، وهي مؤسسة إقليمية متعددة الجنسيات يوجد مقرها في مالي.
كان مدون لو في هذا الوضعية حين اندلعت أحداث 1989 المؤلمة والمسيئة لجميع مكونات شعبنا وجيراننا في السنغال.
وبينما كانت مأموريته سارية المفعول، فوجئ بتقديم الحكومة الموريتانية طلبًا إلى البلدان الأعضاء في اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الوطنية الأفريقية (URTNA) للحصول على استبداله بإطار موريتاني آخر.
بالإجماع، عارضت الدول الأخرى الأعضاء في المنظمة التي يقودها مدون لو استبداله. فبالإضافة إلى المؤهلات المطلوبة، فإن شرط شغل المنصب هو أن يكون المعني حاصلا على جنسية إحدى الدول الأعضاء في المنظمة. هذا بالإضافة إلى أن دولا غير السنغال، عرضت عليه منحه جنسياتها، وهي العروض التي رفضها بدافع الولاء والتعلق بموريتانيا، بلده المختار.
في سياق إصدار السلطات العليا في البلد تعليمات للحكومة الموريتانية بترحيل موريتانيين إلى السنغال لمجرد ولادتهم في هذا البلد الشقيق والجار، تمت دعوة مدون لو من قبل سفارة موريتانيا في مالي للعودة مع عائلته إلى موريتانيا.
كان الرجل منزعجًا للغاية وكان ينتابه الغضب والإحراج من جراء تصرفات سلطات بلده التي كان همها الوحيد هو ترحيله وأفراد عائلته انطلاقا من نواكشوط، فقرر معارضة تلك المناورات، فما من أحد مكانه سيقبل لنفسه ولأسرته الخضوع لإذلال الترحيل من بلده إلى بلد آخر؟
من خلال تصرف يعبر عن سخطه، وتحت ضغط الإكراه والإحساس بموت الضمير، قرر تسليم جوازات سفره الدبلوماسية للسفارة الموريتانية في مالي، معلنا أنه يفضل التخلي عن الجنسية الموريتانية التي سبق وأن اختارها طواعية وبدافع خيار شخصي، بدلاً من الخضوع للإذلال.
في هذا الجو الهستيري، ودون إعطاء أية أهمية للامتثال لأحكام القانون112-61 في المادة 68 التي تنص على أن التخلي عن الجنسية الموريتانية لا يمكن إلا إذا تم في الأشكال المحددة في قانون الجنسيات. تم إذا الشطب على اسم مدون لو من كوادر الوظيفة العمومية، دون حصوله على حقوق التقاعد بالرغم من عدة عقود من العمل كإطار في الوظيفة العمومية.
وبكل وقاحة، يصف قرارٌ الشطب بالاستقالة رفضَ الرجل العودة إلى موريتانيا ليتم ترحيله مع أفراد عائلته إلى بلد أجنبي.
من أجل كرامة أبنائه وزوجته، رفض مدون مسايرة السلطات الموريتانية في ما ذهبت إليه من تهور، خاصة أن الدول الأعضاء في المنظمة كانت راضية عن أدائه، وواصلت منحه ثقتها عبر الاحتفاظ به في منصبه حيث كان يبني لموريتانيا شرفا لا يستهان به.
عند تقاعده كموظف سابق كان ضحية لأحداث عام 1989، لم يستطع استعادة حقوقه التي لم يتوقف عن المطالبة بها. ولما حصلت لديه الثقة في السلطات الجديدة التي تبعث للأمل، كاتب مدون لو، في أكتوبر 2019، وزير الوظيفة العمومية والعمل وعصرنة الإدارة بغية استرجاع حقوقه السليبة.
استقر في سان لويس، قبالة موريتانيا، وليس في دارو موستي، وكان يستعد للمجيء إلى موريتانيا للدفاع عن قضيته لدى السلطات الموريتانية ، إلا أن الله جل جلاله أخذه روحه إليه. رحمه الله أسكنه فسيح جناته العلى. تعازينا القلبية لأسرته المصابة، ولموريتانيا التي أحبها من أعماق قلبه.
كان مدون موريتانياً في القلب، ورجلًا مستقيمًا ومتواضعًا وسخيًا ومخلصًا وحبوبا وأخويًا، كما يشهد بذلك ساكنة دياكيلي الذين تعودوا على أن يشاطرهم لحظات الفرح، مثل تدشين المسجد سنة 2016، وفي أوقات العسرة، مثل الفيضانات وتعزية الأسر في حالات الحداد.
أستودعك الله أيها الأخ الأكبر والصديق الحميم، مع كامل أسفي لكوني لم أتمكن من حضور الصلاة عليك والدعاء لروحك الطاهرة بالخير، وأسأله وهو كريم أن يوسع لك مثواك الأخير في دارو موستي ويحيطك برحماته الواسعة.
ندعو الله العلي القدير أن تكون وفاتك سببا في إنارة طريق الوحدة الوطنية أمام موريتانيا، وأن تساعد في توطيد واحترام وإثراء تنوعنا المثمر. وآمل أن تكون وفاتك المفاجئة فرصة لبلادنا لتكريمك من خلال الاعتراف بحقوقك وكرامتك التي تم الاستخفاف بها في هذه السنة الرهيبة، سنة 1989، وحتى يتم التصالح بين روحك وبين شعب وبلد اخترتهما وأحبتهما من صميم قلبك وظل موقفك كذلك حتى لفظت أنفاسك الأخيرة.
ترحما على روحك وتعبيرا عن صداقتنا،
ذ/ معروفــــــــا ديـــــابيــــــــــرا
نقيب سابق لسلك المحامين الموريتانيين