توقفت مارجاريته ايربن عن احتساب السنوات التي عاشتها منذ وقت طويل. ولدت ايربِن قبل أكثر من 100 عام في مدينة رودنيك التشيكية عند سفح سلسلة جبال كركونوشه الشاهقة في التشيك.
وكانت ايربن تعمل أثناء الحرب العالمية الثانية كاتبة برقيات في مدينة أوسلو. وعندما عادت لألمانيا جمعت أفراد عائلتها المتناثرين في جميع أنحاء ألمانيا واستقرت في مدينة هايدلبرج. وكانت ترعى على مدى حياتها أبناء أخيها وكانت تحتضن أخواتها. ويطلق بيرنهارد ريبرجر، أكبر أبناء شقيق ايربن، على عمته التي تبلغ من العمر 101 عام “القطعة الذهبية لجميع العائلة”.
حسب مكتب الإحصاء الألماني فإن نحو 16 ألف و 500 شخص في ألمانيا بلغوا أكثر من مئة عام أواخر عام .2015 وجمع باحثون ألمان العامل المشترك بين هؤلاء في كتاب بعنوان “100! ما يعرفه العلم عن بلوغ الشيخوخة”. ومارجريته ايربن هي واحدة من خمسة أشخاص تجاوزوا المئة العام ويحكون قصتهم في هذا الكتاب.
عن ذلك قال جيمس فاوبل، مدير معهد ماكس بلانك الألماني لأبحاث السكان بمدينة روستوك شمال ألمانيا: “بلوغ الشيخوخة عملية معقدة” مضيفا: “يمكن لجينات في الإنسان أن توضح بنسبة 25% السبب وراء بلوغ بعض الناس سن 100 سنة وموت البعض الآخر قبل بلوغ هذا السن”.
وكان احتمال بلوغ سن مرتفعا بشكل فوق المتوسط بالنسبة للمشاركين في الدراسة إذا بلغ توأمهم المتماثل عمرا مديدا في حين لم يكن الاحتمال مرتفعا بهذا الشكل مع توأمهم غير المتماثل وهو ما يؤيد حسب الباحثين وجود تأثير وراثي على الأعمار لأن التوائم المتماثلة تشترك فيما بينها في عدد أكبر من الجينات عن التوائم غير المتماثلة.
وصل فريق من الباحثين تحت إشراف توماس بيرلس من جامعة كاليفورنيا أيضا إلى نتيجة مشابهة. حلل الباحثون شجرة القرابة لـ 444 مواطنا أمريكيا عاشوا 100 سنة فأكثر. وكان لدى أشقاء هؤلاء الشيوخ واحد إلى 17 احتمالا لأن يبلغوا هم أيضا سن 100 عام مثل أخوتهم مقارنة بالأمريكيين من نفس المواليد. وبالمناسبة فإن ايديث، شقيقة الألمانية مارجاريته ايربن، بلغت هي الأخرى من العمر عتيا حيث توفيت قبل عام فقط عن 95 سنة.
“ولكن البحث عن جين واحد ذي صلة بالعيش حياة طويلة لم يكن موفقا كثيرا” حسبما أوضح فاوبل مضيفا: “حيث تلعب مئات الجينات دورا في ذلك”. وأوضح فاوبل أن الباحثين يعرفون نوعين من الجينات أولهما بروتينات APOE المسؤولة عن نقل البروتينات الدهنية غير القابلة للذوبان في الماء في الدم وهي البروتينات التي تؤثر على احتمال بلوغ سن مرتفع. وحسب الجينات الوراثية للإنسان فإن أنواع الجينات تؤثر على احتمال الإصابة بالزهايمر وأمراض القلب والأوعية الدموية وهو ما ينعكس بدوره على بلوغ عمر مديد.
واستطاع الباحثون تحت إشراف فريدريكه فلاخسبارت من جامعة كيل الألمانية العثور على شكل آخر ذي صلة بالحياة الطويلة حيث أخذوا عينات حمض نووي من 388 شخصا بلغ من العمر مئة عام فأكثر وقارنوها بجينات شيوخ أقل سنا فوجدوا أن جينا يسمى «FOXO3» يتكرر بشكل ملفت لدى أصحاب المئة عام وبذلك أكدوا النتائج التي توصل إليها الباحث كريج فيلكوكس المتخصص في أبحاث العمر والذي عثر على هذا الشكل من الجينات في عينة أخذت من 200 أمريكي مسن ذوي أصول يابانية. ولكن من غير المعروف حتى الآن كيف يؤثر هذا الشكل الجيني على العمر.
عن ذلك يقول فاوبل: “رغم أن للجينات تأثيرا معتدلا على عمر الإنسان إلا أن هناك عوامل أخرى تلعب دورا أكبر”.
وبينت دراسات عن أطول سكان العالم عمرا وهم سكان اليابان ما هي هذه العوامل حيث يبلغ تعداد اليابان نحو 127 مليون نسمة منهم أكثر من 65 ألف شخص في سن 100 سنة فأكثر. وتعتبر مقاطعة أوكينافا إحدى أكثر مناطق العالم المشهورة بأطول البشر عمرا وذلك رغم أن هذه المقاطعة أفقر مقاطعات اليابان.
ويخضع كبار السن في المقاطعة للدراسة بشكل منتظم منذ 40 عاما. وتؤكد التحليلات أن الحياة الطويلة لهؤلاء السكان تعود بالدرجة الأولى للتغذية الجيدة والحركة المنتظمة وعدم الإفراط في تناول المشروبات الكحولية وكذلك الترابط الاجتماعي حيث تتكون وجبات الأغذية الخاصة بهؤلاء السكان من غذاء قليل السعرات الحرارية وذي كثافة غذائية عالية.
ويأكل سكان هذه المنطقة نحو كيلو جرام من الخضروات يوميا بالإضافة إلى فول الصويا والفاكهة والأسماك الطازجة واللحوم قليلة الدهون ويحتسون شاي الياسمين. كما يتحرك معظم سكان أوكينافا بشكل منتظم في الهواء الطلق ولا يكاد يكون من بينهم مدخن. ولكن هناك شيء ملفت للنظر ألا وهو أن معظم أصحاب الأعمار الطويلة في أوكينافا من النساء.
يمكن رصد هذا النموذج في ألمانيا أيضا حيث إن 85% من الأشخاص البالغين من العمر 100 عام من النساء. ويزيد متوسط أعمار النساء في ألمانيا خمس سنوات عن متوسط أعمار الرجال حيث يبلغ متوسط أعمار النساء 4ر83 سنة.
وعلل فاوبل ذلك بأن “هناك اختلافات حيوية بين الرجال والنساء تفسر هذه الظاهرة.. ولكن الاختلاف في سلوكيات الرجال والنساء هي التي تجعل الفارق العمري بينهم بهذا الشكل”.
وأظهرت دراسة بريطانية أن 60% من الفوارق في الأعمار بين الرجال والنساء يمكن أن تعزى إلى أن الرجال أكثر تدخينا وأكثر تعاطيا للمشروبات الكحولية من النساء. كما أن الرجال يزاولون مهنا خطيرة في الغالب ويتصرفون بشكل أكثر مخاطرة.
تقدم النظرية التي تعرف بفرضية الجدة محاولة أخرى لتفسير السبب وراء حياة النساء عمرا طويلا بعد انقطاع الطمث أو بعد بلوغ سن اليأس في حين أن الكثير من الحيوانات الثديية الأخرى تموت عقب وصول مرحلة عدم الإنجاب حيث يرجح الباحثون أن السبب وراء ذلك هو أن النساء يعتنين في كبرهن بالأحفاد حتى يظلوا أحياء ويحملوا جينات المرأة. كما يعتقد الباحثون بأن رعاية الأحفاد تحافظ على اللياقة الجسدية للجدات مما يجعلهن يظللن أصحاء فترة أطول.
هذا هو درسه باحثون في علم النفس تحت إشراف رالف هيرتفيج، مدير معهد ماكس بلانك لأبحاث التعليم في برلين حيث أرادوا معرفة ما إذا كان الأجداد الذين يعتنون بأحفادهم بشكل منتظم يبلغون عمرا أطول من الأجداد الذين قلما يقضون وقتا مع أحفادهم.
واستند الباحثون في دراستهم إلى بيانات الدراسة التي أعدها باحثو برلين الذين يرصدون منذ عام 1990 ذكاء أكثر من 500 مسن من غرب برلين و صحتهم وشخصيتهم كل عامين. كما أراد الباحثون الإجابة على سؤال خاص بالحياة الاجتماعية، على سبيل المثال طول الوقت الذي يقضونه مع أحفادهم وما إذا كانوا يعتنون بأشخاص آخرين.
وجد الباحثون تحت إشراف هيرتفيج أن المشاركين في الدراسة الذين قضوا بشكل منتظم وقتا مع أحفادهم عاشوا أطول. وبعد عشر سنوات من بدء الدراسة كان 50% من الأجداد المراعين لأحفادهم لا يزالون على قيد الحياة في حين أن المشاركين في الدراسة الذين كانوا يرون أحفادهم بشكل نادر أو لم يكن لهم أحفاد أصلا توفوا بالفعل بعد خمس سنوات من بدء متابعتهم.
ولكن البالغين الذين لم يكن لهم أطفال أيضا يمكن أن يستفيدوا من رعاية الآخرين حيث تبين أن الذين كشفت الدراسة أنهم كانوا مرتبطين داخل وسط اجتماعي وذكروا أنهم يساعدون معارف لهم بشكل منتظم عاشوا أطول أيضا. ربما كان هذا أيضا السر وراء طول عمر معمرتنا مارجاريته ايربن حيث كانت ترعى أخواتها طول حياتها كما أنها كانت تقضي وقتا طويلا مع أبناء إخوتها ومع الأطفال.
إذا توفرت جميع الظروف من جينات مناسبة و تغذية صحية و ارتباط اجتماعي فكم يمكن أن يبلغ الإنسان من العمر كأقصى تقدير؟
يجيب فاوبل عن ذلك قائلا: “هذا سؤال صعب الإجابة” مشيرا إلى أن الفرنسية جان كالمون هي صاحبة أعلى سن تم رصده حتى الآن حيث توفيت عن 122 عاما وكان ذلك سنة 1997 “ولا نعرف شخصا آخر عاش أطول.. ولكننا نسجل أن عدد الناس الذين يبلغون مئة بل و 110 سنة يتضاعف كل سبع سنوات على مستوى العالم” حسبما أوضح فاوبل.
وخلصت دراسة طويلة المدى نشرت مؤخرا في دورية “زي لانسيت” المتخصصة أن متوسط عمر النساء في كوريا الجنوبية ربما يبلغ أكثر من 90 عاما سنة .2030 ويرجح فاوبل أن يحطم شخص ما مستقبلا الرقم القياسي للفرنسية كالمون.