علق استأذنا محمد السالك إبراهيم Med Saleck Brahim حول وصفنا لجزيرة "التيدرة" بان تمركزها كنقطة انطلاق للمرابطين يعد بمثابة فرضية أو هو الى الأسطورة أقرب منه للحقيقة والواقع، فكتب مؤكدا على ان "جزيرة تيدرة هي مهد الدولة المرابطية، حيث أسس أبو بكر بن عمر وعبد الله بن ياسين ـ قبل ألف سنةـ على أديمها ذلك الرباط، الذي كان منطلقا لحركـة المرابطين وجهادهم واشعاعهم الحضاري في القطر وفي المنطقة. تلك الحركـة الإصلاحية التي أمتد نفوذها إلى الأندلس شمالا وإلى الممالك الافرقية الوثنية جنوبا" إنتهى الاستشهاد، والواقع أن نسبة كبيرة مما يتداوله الناس هنا بشأن دولة الملثمين يزيد كل مهتم بمسار هذه الدولة حيرة بسبب كثرة الاسترسال في الكلام والتوسع في الاستنتاجات والتهويل من عظمة هذا التأسيس مع شح كبير في المصادر وغياب لأي أثر مادي او اركيولوجي ملموس.
وهــنا سأتجاسـر على استاذي المحترم لأبيـن طبيعة موقفي الذي استند فيه الى موقف الباحث والمهتم بهذه الحقبة من تاريخ القبائل والسكان الاصليين لمجالنا الترابي (موريتانيا حاليا) دون اعتبارات أخرى.
أولاً من أهم الباحثين حول "صحراء الملثمين" نذكر الدكتور الناني ولد الحسين صاحب اطروحة الرباط و اﻟﺒﺎﺣﺚ البرازيلي ﺑﺎوﻟﻮ ﻓﺮﻧﺎﻧﺪو دو ﻣﺎرياس ﻓﺎرياس فكلاهما لم يستسلم للسرديات التاريخية ولم يساهم في ترويج جزئياتها، وأما الأخيــر فهو مصدر فرضية كون جزيـرة التيدرة Tidra قـد تكون هي المكان التي تمت فيـه المرابطـة، ولكن هذا الباحث البرازيلي عندما زار التيدرة في مهمتين متتاليتين سنة 1965 وكان برفقته المؤرح الموريتاني المخطار ولد حامدن والعالم الأثــري هـ.ج. هيكو لم يتمكن من العثور على أي أثر معماري أو اركيولوجي لرباط عبد الله بن ياسين، كما أن بعض الأوصاف التي نقلت عن يحي بن ابرهيم الكدالي خلال حواره مع عبد الله بن ياسين، عندما قال له : " "... إن هاهنا في ﺑﻼدﻧﺎ جزيرة في اﻟﺒﺤﺮ إذا اﻧﺤﺴﺮ اﻟﺒﺤﺮ دﺧﻠﻨﺎ اليها ﻋلى أﻗﺪاﻣﻨﺎ وإذا اﻣﺘﻸ دخلناها في اﻟﺰوارق وفيها الحلال المحض اﻟﺬي ﻻﺷﻚ ﻓﻴه ﻣﻦ اشجار البرية وﺻﻴﺪ اﻟﺒﺤﺮ وأﺻﻨﺎف الطير واﻟﻮﺣﺶ والحوت" بقيت دون أمارات ظاهرة أو بادية.
لم يرفض هؤلاء الباحثون فرضية ان تكون جزيرة التيدرة (الصورة الثانية مرفقـة) المحاذية لشواطيئ المحيط الاطلسي هي موقع الرباط لكنهم في المقابل يؤكدون ان مياهها غير صالحة للشرب، فمن أين كان جيش يزيـد على 1000 جندي يمتاح الماء ليشرب ويغتسل ويتوضأ ويطهوا، كما ان انحسار الماء عنها في الشتاء ليــس تماما كما يتصور البعـض سهولته دون ادنى مجهود بحثي.
الفرضية الثانية، كان قد تقدم بها كثير من الباحثين ولكن يهمني هنا ان ابرز من بينهم الدكتور الناني ولد الحسين (المستشار الثقافي الآن بالسفارة الموريتانية بالرباط) وهذا الباحث الموريتاني يرجـح حجـة أخرى تسوق لكون رباط عبد الله بن ياسين تأسس على جزر بنهر السنغال (انظر صورة الاقمار الاصطناعية الأولى )، ويعتمد صاحب هذه الفرضية في موقفه هذا على ﻤﺎ ذﻛﺮﻩ اﺑﻦ ﺧﻠﺪون من وصف ﻟﻠﻤﻮﻗﻊ اﻟﺬي اﺣﺘﻀﻦ ﺮﺑﺎط بن ياسين حينما كتب يقول : "... ﻓﻨﺒﺬوا ﻋﻦ اﻟﻨﺎس بربوة ﻳﺤﻴﻂ ﺑﺤﺮ اﻟﻨﻴﻞ ﻣﻦ جهاتها، ضحضاحا في المصيف وﻏﻤﺮا في اﻟﺸﺘﺎء، ﻓﺘﻌﻮد جزرا ﻣﻨﻘﻄﻌﺔ، ﻓﺪﺧﻠﻮا في ﻏﻴﺎﺿﻬﺎ منقطعين ﻟﻠﻌﺒﺎدة، وتسامع الناس بهم من في قلبه مثقال حبة من خير، ﻓتسايلوا اليهم ودﺧﻠﻮا دينهم وﻏﻴﻀﻬﻢ..." وهنا يعتقد الباحث الموريتاني أن المقصود هـو المنطقة الساحلية المحاذية لبلاد السودان موجها تفكيره الى نهر السنغال نظرا لان ابن خلدون اورد مصطلح بحـر النيل وكان الناس في تلك الفترة يعتقدون ان نهر السنغال مجرد تفر ع من نهر النيل (ربما يكون المقصود هنا هو جزيرة ابجهوص التي تعـد احدى أهـم واكبر الجزر النهرية المأهولة حتى اليوم وهي ايضا غير بعيـدة مـن شواطئ المحيط الاطلسي).
وفي السنغال تتناقل الروايات الشفهية ايضا فرضية ثالثـة مغايـرة تماما لكنها تفيــد بأن الموقع الأول الذي شيدت عليه مدينة "أنْدرْ" هو دار المرابطين نسبة الى رباط عبد الله بن ياسين وان سكان المنطقة من الولوف استصعبوا نطقه فحرفوه الى "اندر"، ومن بيـن الشخصيات السنغالية التي سوقت لهذه الفرضيـة يجري ذكـر سيد الامين انياس.
ومن الجديــر ذكـره أن الرباط ايا كان واين اقيم كان قـد تشاركت في تأسيسه قيادات صنهاجية الى جانب زعامات تكرورية ونذكر من القيادات السودانية التي ساهمت في الفتح المرابطي زعيم مملكة التكارير لبي ابن وارجابي الذي قتل في احدى المعارك ضـد قبيلة كدالة الى جانب يحي بن عمر اللمتوني، كما أنه من الوجيـه تأكيــده أن الديانات الوثنية والتقليديـة كانت شائعـة لدى القبائل الصنهاجية كما هـي متغلغة في نظيرتها الافريقية السوداء، وكان اتباع الديانــة الاسلامية هـم بمثابة أقلية دينية قبل ان تغير الحروب الدينية المعادلة تماما.
ما أردت قوله هــو أن الموضوع برمته لا يزال بكرا ولا يمكن الجزم نهائيا بحقيقة وجود هذا الرباط المعماري والعسكري الذي من الممكن انه شمل مصانع ومخـازن للأسلحـة والمؤن واسطبـلات للجياد أو الجمال وخيام أو مساكن للجنـد ومن المناسب كذلك أن يشيد فيـه مسجــد للصلاة وللاجتماعات المختلفة، وربما مرفإ بسيط للقوارب التي ستحمل المؤونة والاغراض المختلفة، فأيـن كل هذا في جزيــرة التيدرة؟ وأين كان الجنود يتدربــون ويتهيؤون والجزر كلها مسطحـة ومكشوفـة أمام العدو في حالـة رغبته في الاستطلاع !؟؟
أخيرا بالنسبة لجزيرة التيدرة كنت مررت بحوافها الشمالية والغربية متجها الى جزيرة نيرومي ـ توجد داخل هذه الاخيرة مقابـر لمجموعات قبلية معروفـة ومن الجيــد أن ألفت انتباه ابناء هذه القبائل الـى ان الماء يتجه لغمر تلك المقابر تبعا لظاهرة التغير المناخي المتواصلةـ ومن الجدير ذكره هنا ايضا أن جزيرة التيدرة تحتل مساحة كبيــرة جدا وهي كذلك منطقة صحراوية قليلة النبات وربما يتخذ منها الصيادة التقليديون موقعا للراحـة ولا ادري ان كانت الزيارات تسير اليها بشكل منظم.
و أما تسمية "التيدرة" فهـي تعنـي المقبرة وفعلا توجد على جزيـرة التيدرة حاليا مقابـر تندغية تعود الى فترات لاحقة جدا على تأسيس المرابطين.
*بقلم : عبيد اميجن
كاتب صحفي ورئيس منتدى الاواصر للتحاور*