ليس من السهل على الإنسان أن يتنقل بين الناس، وهو يحمل اسماً غريباً أو مخيفاً، فكيف إذا كان شاعراً وأديباً ومصنفاً وجب ذكر اسمه، سواء على ما يضعه من كتب، أو لدى اجتماعه بأشخاص.
وحمل أحد شعراء العربية، اسماً يتطيّر منه الناس، فأصبح يخفيه عنهم، لتجنّب ذلك التطيّر، خاصة إذا كان سيزور مريضاً، فكيف سيقوم إنسان بزيارة مريض، مثلا، واسمه (يَمُوت)؟
وفيما لم يعرف السبب بإطلاق اسم (يَمُوت) على الأبناء، وما إذا كان من قبيل الأضداد أو الحماية من الحسد، عُرف في العربية القديمة، اسم (تموتُ) للأنثى، إنما ليس من قبيل الحماية من الحسد، حيث اتفق الإخباريون أن (تموت) التي ذكرت في إحدى الأراجيز، متّصلة بظاهرة وأد البنات، مع العلم أن ما ورد من معان في الأرجوزة، قد يبتعد بعض الشيء عمّا حمِّل به من قضية الوأد:
سمَّيتُها إذ ولدت، تَموتُ/ والقبرُ صهرٌ ضامنٌ زمّيتُ/ ليس لمن ضُمّنه تربيتُ. ونقله (تاج العروس) في وجوه كلمة الموت، ذاكراً اسم الشاعر العربي الذي حمل اسم (يموت) وهو: يموتُ بن المزرّع بن يموت، أبو بكر العبدي من عبد القيس، كما ضبطه الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت (392-463) للهجرة، في (تاريخ مدينة السلام) والمعروف بتاريخ بغداد.
وورد أكثر من تاريخ لوفاة يموت، 304 للهجرة، أو 303، في منطقة (طبريا) الشامية.
"بليتُ بالاسم الذي سمّاني به أبي!"
وكان يموت، هذا، يعاني من اسمه، الأمر الذي دفعه إلى تغييره، فسمّى نفسه محمداً، يقول ابن خلكان، أحمد بن محمد بن أبي بكر (608-681) للهجرة، في مصنفه الشهير (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان): "كان أديباً إخبارياً، وكان لا يعود (يزور) مريضاً خوفاً من أن يتطير من اسمه!".
ويذكر ابن يونس الصدفي، عبد الرحمن بن أحمد بن يونس المصري (281-347) للهجرة، المؤرّخ، في كتابه المعروف باسم (تاريخ ابن يونس) أن يموت بن المزرّع زار مصر مراراً، ويمدح مصنفاته، دون أن يشير إلى معاناة الرجل من اسمه.
لكن صاحب (تاريخ مدينة السلام) الذي يؤكد أن (الجاحظ) هو خال يموت المذكور، يورد بالنقل، قصة إخفاء يموت لاسمه: "بليتُ بالاسم الذي سمّاتي به أبي، فإني إذا عدتُ (زرتُ) مريضاً فاستأذنتُ عليه فقيل: من ذا؟ قلت: أنا ابن المزرّع، وأسقطتُ اسمي!".
أي أنه لا يذكر اسمه الأول (يموت).
مصنفون آخرون، قالوا إن يموت بن المزرّع، لم يكن أصلاً، يقوم بزيارة المرضى، كي لا يتطيروا من اسمه. حسب ما ذكره خير الدين الزركلي، في (قاموس الأعلام): "وكان لا يعود مريضا خوفاً من أن يتطيّر من اسمه". ويرد هذا التأكيد في (مروج الذهب ومعادن الجوهر) للمسعودي، بحرفيّته.
وبسبب قيام يموت بإطلاق اسم (محمد) على نفسه، هرباً من اسمه الحقيقي، أصبح المصنفون يوردون له ترجمتين اثنتين، ترجمة باسمه الحقيقي، يموت، وأخرى باسمه المستعار الثاني، محمد. وهو ما فعله الخطيب البغدادي الذي ترجم له، مرتين، مشيراً إلى السبب ذلك، ثم يورد شعراً للرجل، متحدثاً فيه عن اسمه، مع الإشارة إلى أن بعض الروايات تنسب هذه الأبيات لابن الشاعر لا الشاعر نفسه:
وقلْ بالعلم كان أبي جواداً
يقال ومَن أبوك؟ فقل: يموتُ!
ويَموتُ، هو الاسم المقابل لـ(يعيش) كثير الورود في أسماء العرب، فيما يموت نادر وكان من نصيب ابن المزرّع. وبحاصل غالبية الروايات، فإن ابن المزرّع كان يمتنع أصلاً، عن زيارة المرضى، ولم يكتف وحسب بإسقاط اسمه الأول، لو سئل عنه لدى قيامه بعيادة مريض، فها هو المؤرخ الكبير الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان المتوفى سنة 748 للهجرة، في مصنفه الكبير الذي يعد من أمهات مراجع تراجم التاريخ الإسلامي المعروف بـ(تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام) يقول عن يموت: "وكان لا يعود مريضاً لئلا يتطيّر باسمه" واصفاً الرجل بـ"العلاّمة".
هذه فلسفة العرب بالأسماء
ظاهرة الأسماء الغريبة عند العرب، خاصة الوحشي منها أو المنطوي على غلظة ما، كانت موضوع أحد أهم مصنفات العربية، وهو كتاب (الاشتقاق) لابن دريد، محمد بن الحسن، 223- 321 للهجرة. أوضح فيه للناس، سياق تسمية العرب لأبنائها، بأسماء "مستقبحة" كما قال.
وابن دريد، أحد أشهر المدافعين عن العرب والعربية، بل إنه وضع كتاب (الاشتقاق) للدفاع عن العرب، شارحاً السياق الثقافي والاجتماعي، لتسمية أبنائهم بأسماء قد يستغربها البعض. وينقل: "ما بالُ العرب سمّت أبناءها بالأسماء المستشنعة، وسمّت عبيدها بالأسماء المستحسنة؟ فقال: لأنها سمّت أبناءها، لأعدائها، وسمّت عبيدها، لأنفسها!".
ويورد ابن دريد، مذاهب العرب بتسمية أبنائها: "منها ما سمّوه تفاؤلاً على أعدائهم، نحو غالب وغلاّب وظالم وعارم". ومنها ما "تفاءلوا به للأبناء، نحو نائل ووائل وسعد وسعيد". ومنه ما سمّي "بالسباع ترهيباً لأعدائهم، نحو أسد وذئب". ومنه ما سمّي "بما غلظ وخشن من الشجر، تفاؤلا أيضا، من نحو طلحة وسلمة وقتادة". ومنه ما سمّي بما "غلظ من الأرض وخشن لمسه وموطئه، مثل حجر وحجير".
وموضوع الأسماء وضبطها، من المواضيع الشائعة لدى المصنفين العرب، فوضعوا كثيراً من الكتب التي تعنى بالكشف عن حقيقة الأسماء وضبطها بالكامل، ككتاب (الإكمال) في الأسماء، للحافظ ابن ماكولا.
وشهد العصر الحديث وضع كتب عديدة، في الأسماء، ككتاب (ضبط الأعلام) للمحقق المصري الشهير أحمد باشا تيمور، وكتاب (قاموس الأسماء العربية والمعرّبة وتفسير معانيها) للدكتور حنا نصر الحتّي، والذي ورد في مقدمته، 11 دافعاً لدى العرب، لاختيار الأسماء، يبرز في سادسها، ما وصف بـ"حماية الشخص من الحسد، والأرواح الشريرة، والجن، ولذلك اختاروا أسماء قبيحة منفّرة" لإطلاقها على أبنائهم. وقد يكون (يموت) الشاعر واحداً من الذين أطلق عليهم هذا الاسم، للدافع المذكور، إلا أنه كان وبالا عليه، فغيَّره، سواء باتخاذ اسم آخر، أو بإخفائه لو سئل عنه.