على غرار ما حدث في المسلسل التليفزيوني المصري 'عباس الأبيض' للنجم يحيى الفخراني، الذي عاد فيه إلى أسرته بعد 20 عاماً قضاها في العراق ظنوا خلالها أنه توفي وتبدلت فيها حياة أسرته، وظل طوال المسلسل يحاول إثبات أنه حي، عاد المواطن المصري عبد الحليم مرشد من العراق إلى مصر.
عودة عبد الحليم - أو 'عم عبود' كما يطلق عليه أهل قريته - جاءت بعد 'تغريبة' 36 عاماً قضاها في العراق بعد أن ضاعت أوراقه، تبدل فيها كل شيء تقريباً، توفي كثير ممن كان يعرفهم، وتغيرت ملامح الباقين، وحمل بين يديه أحفاده من ابنٍ تركه في عمر الـ 6 أشهر فقط.
في البدء كان الفقر.. تغريبة عم عبود
بداية القصة تعلقت بضيق العيش في قرية من قرى صعيد مصر، حيث لم يجد الشاب عبد الحليم الذي لم يتجاوز عمره 18 عاماً آنذاك وظيفة بدخل يوفر له حياة كريمة.
وذكر عبد الحليم لـ 'هاف بوست عربي' أنه في ذلك الوقت، تزوج وأنجب طفله الوحيد ناصر، الذي بلغ من العمر 6 أشهر، عندما بدأ 'تغريبة' السفر بحثاً عن 'لقمة العيش'.
وكعادة الكثيرين من المصريين في ذلك الوقت من أواخر عقد السبعينيات وأوائل عقد الثمانينيات من القرن الماضي، كانت أبواب العراق مفتوحة لأحلام الشباب، فجمع عبد الحليم ما ادخره من أموال، وباعت زوجته شبكتها الذهبية التي قدمها إليها في الخطوبة، ودفع 75 جنيهاً مصاريف السفر آنذاك، وسافر بحثاً عن عمل.
لم يجد الشاب المصري الوظائف متاحة عندما وصل إلى العراق كما كان يظن، فبدأ يتنقل من عمل مؤقت إلى آخر، لتوفير قوت يومه فقط، ولم يجد إلا المهنة الوحيدة التى يجيدها وهي الزراعة.
فقد كان في قريته فلاحاً يعمل بالأجرة لدى الغير ولا يمتلك أرضاً. وعندما سافر تكفل أبوه بأسرته الصغيرة. وكان يرسل إلى ذويه خطاباً كلما توفرت الظروف ووجد من يكتب له الخطاب لأنه لا يعرف القراءة والكتابة.
ضياع الأوراق.. لا شيء يثبت وجودك
بعد 3 سنوات في الغربة تنقل خلالها عم عبود من وظيفة لأخرى ومن مكان لآخر، ضاعت أوراقه بالكامل، فذهب إلى السفارة المصرية لحل مشكلته والحصول على أوراق ثبوتية بديلة، كما نصحه من عرفوا بقصته.
ولكن السفارة طلبت منه نسخة من الأوراق الأصلية الضائعة ليثبت صحة كلامه، لكي تستطيع إعادته إلى مصر، كما قال لـ'هاف بوست عربي'.
وحينما فشل فى إقناعهم، قرر الاستسلام للأمر الواقع وبقي في العراق بلا أوراق تثبت هويته، وظن أنه لن يرى صغيره أو زوجته مرة أخرى، 'بقيت أنتظر الموت غريباً في أرض الله'، كما قال.
عم عبود الذي عاندته كل الظروف وقتها، لم يجد مصرياً واحداً في المناطق التي عمل بها لكي يطمئن أهله عليه، أو يطمئن عليهم، فاستسلم للأقدار وظل يعمل لتوفير قوته يوماً بيوم حتى يأتي الأجل. ولأنه لم يتخيل يوماً إمكانية عودته فلم يسع لادخار أية أموال ليوم كهذا.
من الغزو الأميركي إلى داعش.. 'سكن الخراب'
ضياع الأوراق جعل عبدالحليم حبيس المنطقة التي كان يقطنها، يعمل كمزارع لدى أحد العراقيين، ويعود ليقضي ليله في مسكنه وحيداً.
وحكى لـ'هاف بوست عربي' كيف كانت السنوات تشبه بعضها في العراق، لم يتغير الأمر إلا وقت الغزو الأميركي للعراق في مارس/آذار 2003 ، وقتها 'سكن الخراب العراق'، على حد وصفه.
أسوأ الفترات التي لا ينساها عبد الحليم، كانت آخر 3 سنوات قضاها في العراق، بعد ظهور تنظيم داعش، أو 'المتمردين' كما يسميهم، والذين بدأوا 'قتل الناس كالذبائح، فلزم الجميع داره، ولم يعد الخروج من البيت إلا للضرورة'.
عبدالحليم لا ينسى جاره الذي لازمه 17 عاماً ووجدوه مقتولاً، وعلم أن 'المتمردين' هم الذين فعلوها.
عودة الأب الغائب
مرت الأعوام، التي توقف عبد الحليم عن حسابها، وظل كلما قابل شخصاً يروي له حكايته، حتى تصادف أن قابل في العراق مصرياً من محافظة المنيا - في صعيد مصر - التي ينتمي إليها. سمع قصته وعاد ليخبر من يعرفه في قرية 'النوارة'، ويزف البشرى إلى ناصر ابنه ويخبره أن والده لا يزال على قيد الحياة.
في البداية لم يصدق ناصر، فقد تربى يتيماً وتزوج وأنجب وهو يعلم أن والده ذهب للعراق وتوفي هناك وحصلت والدته على حكم قضائي بوفاته.
الأمل دفع ناصر للإسراع بالذهاب إلى وزارة الخارجية المصرية ومعه صورة من بيانات والده، وآخر مكان قيل أنه شوهد فيه في العراق.
وكان القدر رحيماً بعم عبود فتوصل إليه رجل آخر من 'بلدياته' – كما وصفه - وطلب منه زيارته في السفارة المصرية ببغداد ليسهل له عودته لمصر، فأخبره عم عبود أنه لا يملك أي أموال، فطمأنه وعرض عليه مالاً إن احتاج.
وبعد غياب 36 عاماً، عاد عبدالحليم ليجد والديه قد فارقا الحياة، وصغيره أصبح أباً لثلاثة أطفال، فيما بقيت زوجته بلا زواج رغم حصولها على حكم قضائي بوفاته.
استقبلوه كالعريس في 'نوارة'
دخول عبدالحليم القرية كان مثل 'زفة العريس'، حيث اصطف الأهل للسلام والاستقبال، وسبق دخوله البيت صوت 'الزغاريد' التي علت، لتزف خبر عودة الغائب.
'كل شيء تغير'.. هكذا وصف الأب العائد حال قريته 'النوارة' التي غادرها قبل 36 عاماً، وقال إنها أصبحت تشبه المدينة من حيث البنايات التي تتجاوز الطوابق السبعة والكهرباء دخلت كل البيوت.
سجين الخوف وبطاقة الهوية
وعلى الرغم من عودته منذ عدة أيام، وفرحة أهله به إلا أنه مازال يلزم القرية، لا يستطيع الخروج لأنه لا يملك بطاقة رقم قومي، بعد أن صدر ضده حكم يثبت وفاته.
يقول عبد الحليم 'في العراق سجنت في المنزل هرباً من داعش وفي مصر أنا سجين الخوف من الأمن، ووكلت محامياً لرفع دعوى قضائية لأثبت أني لا أزال على قيد الحياة حتى أشعر أني عدت لبلدي ومازلت حياً أرزق'.
تركت عم عبود أو عبد الحليم، وأنا أسترجع أحداث مسلسل عباس الأبيض وأتمنى أن تكون النهاية سعيدة لقصة رجل غاب عن الحياة 36 عاماً لأنه فقد جواز سفره وبطاقة الهوية.