الشمس تميل إلى الغياب. يتحول لونها من الأصفر إلى الأرجواني. يخبو خيط الضوء الأخير تاركا مكانه لمصابيح معلقة على طول شارع تعرض على ضفتيه ملابس وعطور وحلي وأساور من ذهب وفضة. ضوء المصابيح القريب من الأصفر الذهبي يكشف جماليات السفائف والأطرزة التي تزركش الأزياء. مشهد المصابيح المعلقة بمسافات متقاربة والضوء العليل والحلي والأثواب والشمس المتكسرة وراء الجبال البعيدة يغري بالدخول في فسحة استكشافية بشارع موريتان أو “شويرع” موريتان كما تجري بتسميته الألسن بمدينة كلميم.
على طول الشارع تعرض منتجات مختلفة من حقائب نسائية، وعطور، وكؤوس شاي، ومجوهرات، وأقمشة، وخواتم الفضة، ومستحضرات التجميل، وحبات البخور، و”ملاحف ودراعيات” صحراوية، وأحذية ونعال جلدية وإكسسوارات زينة علقت بعضها على أبواب المتاجر.
داخل أحد المتاجر، يخوض صاحب البضاعة مفاوضات شاقة للدفاع عن الثمن الذي يطلبه في دملج من فضة في وجه زبونة تعرض سعرا أقل، فيما تقف امرأة بواجهة المتجر تتفحص ثوب “ملحفة” وتدقق فيه النظر وكأنها تخمن الثمن قياسا بما تجده فيه من جودة. بمحل مجاور، يسأل رجل خمسيني يعتمر عمامة زرقاء عن طلبيته من الصمغ (مادة لزجة تستخرج من أشجار الطلح لها فوائد علاجية) وعلب الشاي، يرد صاحب المحل بأنها ستكون جاهزة في اليوم الموالي. في الخارج، يقلøب ثلاثة شبان بعض الحلي وقطع الإكسسوار رخيصة الثمن التي تصلح لأن تكون تذكارات..على خطي الشارع أعين تجيل البصر في واجهات المتاجر وأخرى بين أركانها وأيادي تتحرى العيوب وأوجه الخلل الممكن أن تشين ثوبا أو دملجا أو تذكارا.
“المنتجات المعروضة هنا، خاصة ما تعلق بها باللباس الصحراوي والعطور ومواد الزينة تحظى بقيمة رفيعة لدى الناس، لأن الشارع له تاريخه وخصوصيته”، يقول الباحث في علم السياسة والاجتماع، الرباني ولد حمادي، وأحد أبناء المدينة، الذي رافق وكالة المغرب العربي للأنباء في جولة بالشارع.
ويضيف مفصلا ما يعنيه بالقيمة الرفيعة “شراء الملحفة أو الدراعية من ‘شويرع’ أو ‘سويقة’ موريتان كما يسميه الناس هنا صار تقليدا ثابتا في المناسبات والأعياد وعند الاستعداد للحفلات العائلية نظرا لأصالة المنتجات المعروضة فيه، وتطوير التجار نوعا من الاختصاص في بيع مختلف الأمتعة والمنتجات ذات القيمة الاجتماعية والحمولة الثقافية في مدن الصحراء “.
لكن ما سر تسمية الشارع¿ يجيب الرباني ” اكتسب شارع موريتان هذا الاسم من سببين: الأول لكون أغلب السلع المعروضة فيه ترد من موريتانيا، والثاني لوجود تجار موريتانيين يبيعون بضائعهم فيه”، مستدركا أن “عدد هؤلاء تضاءل حاليا مقارنة مع عددهم في الماضي، وصارت الأكثرية للتجار المغاربة”.
أخذ الشارع هويته كموقع مخصص للتسوق وعرض البضائع والتجارة منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي عقب افتتاح مجموعة من التجار القادمين من موريتانيا محلات تجارية بالشارع، وشهد خلال سنوات الثمانينات وبداية التسعينات ذروة رواجه وانتعاشه التجاري، ليعرف ابتداء من النصف الثاني من عقد التسعينات ركودا اقتصاديا لأسباب منها عودة الكثير من التجار الموريتانيين إلى موريتانيا وإغلاق محلاتهم بكلميم وتسجيل انقطاع في بعض البضائع التي كان يتم استيرادها من موريتانيا على الخصوص.
“ابتداء من سنة 2000، انتعشت حركة البيع والشراء في الشارع تدريجيا، ويمكن القول إن الشارع استرجع ألقه الآن “، يقول محمد صاحب محل تجاري بالشارع، مضيفا “لا زلنا نستورد المنتجات من موريتانيا، لكن لدينا أيضا منتجات نستوردها من السعودية والإمارات، وبعض المنتجات نشتريها من الدار البيضاء”.
أحمد سالم، أحد التجار الموريتانيين القلائل الذين لا يزالون يمارسون التجارة بهذا الشارع، لا يتفق في القول بأن الحركية التجارية في أفضل حالاتها، دون أن يعني ذلك أنها في الحضيض وإنما “تبقى في مستوى مقبول”.
“مارست التجارة منذ التسعينات في المغرب، أولا في العيون، ثم في كلميم، ثم متنقلا بين عدة مدن مغربية خاصة الدار البيضاء، والحقيقة أن الرواج هنا في مستوى مقبول، الحمد لله لا ديون علي، والوضعية مريحة عموما”، يقول سالم.
على مدار ثلاثة عقود، تحسنت البنية التحتية للشارع وتمدد بشكل نسبي واستقبل تجارا جددا وتطور العرض التجاري ليشمل منتجات لا تشكل الرأسمال الرمزي الذي يميز هذا الفضاء ، من مثل مستحضرات التجميل الحديثة، ومحلات بيع الهواتف النقالة، وإصلاح الأجهزة الإلكترونية. غير أن هذه المنتجات تبقى بمثابة البهارات التي لا تفقد الشارع نكهته الأصلية. نكهة الشاي الصحراوي الأصيل، والملاحف البديعة، والدراعيات المزينة بشتى الزخارف، وشذى العطور والبخور الثمينة.
المصدر: وكالة المغرب العربي للأنباء.