"معركة" تغيير العلم وتعديل الدستور وإرهاصات المستقبل

ثلاثاء, 07/03/2017 - 13:28

المتتبع للشأن العام بموريتانيا اليوم، سيجد نفسه أمام لوحة بها مطبات وأخاديد تعمق عن قصد، ومجاهيل ومؤشرات، تجعله في حالة قلق جدي، وأمام احتمالات قد يصبح أحلاها أمر من الحنظل.. وسيزداد قلقه أكثر، عند ما يدرك أن المعنيين بالشأن العام، هم أكثر الناس تفاؤلا بالمستقبل، تقليدا للنعامة، غارقين في اهتماماتهم الذاتية، متجاهلين علنا كل المخاطر والتحديات الماثلة.

فالسلطة، تقدم نفسها - دون قصد- كمن ينوء بحمله ويتعثر في خطاه، عاجزا عن جر العربة نحو مأمنها، يلجأ للحيلة، حتى لا ينكشف وضعه، يقلد الأسد في زئيره، فلا يترك صدى في فضائه .. ويستعرض عضلاته "المفتولة"، فلا يخيف عدوا ولا يريح صديقا.

نظام يسعى لإتمام مأموريته بشق الأنفس وبخطوات تبدو عشوائية.. بلا هدف واضح وبلا مردودية.. ولا تعكس بالضرورة حاجة وطنية ماثلة.. وشعب يعد بالثواني ما تبقى من هذه المأمورية ويتمنى في سره وجهر بعضه انتهاء هذه المأمورية أمس قبل اليوم.

"ممثلوه" يعاملون وكأنهم صماصرة مواقف في "معركة" هم وقودها، راضون من غنيمتها بالإياب.. لا يقيم لهم "نظامهم" وزنا.. يتسابقون نحو السكين التي يراد منها ذبحهم من الوريد إلى الوريد.

 نظام لم يشأ تحسين أوضاع الناس، وفي ظله أضحت الدولة تتعامل مع مواطنيها بمنطق الربح والخسارة.. اعتصر جيوبهم حتى خوت.. وضغط على أمعائهم، حتى رضيت بأقل القليل.. واختزل مطالبهم الوجودية في درع يقيه المتابعة وكلمات نشيد وخط أحمر في علم.

فبتبنيه لخيارات غير جوهرية، لا تشكل مطلبا شعبيا، وإصراره العنتري على تنفيذها، من خلال إجراءات لا تحمل نفسا نضاليا ولا قطيعة مع التبعية الثقافية، ولا تشكل إضافة لهوية ممزقة ومداسة، كرستها تبعية مذلة  وخنوع  رسمي لمستعمر الأمس، وارتهان لمصالح فردية، ظلت عدوا لخيارات الشعب ومحددات الشخصية الوطنية.. فإنه بهذه الخيارات، قد تجاهل عمليا متطلبات  الحكامة الرشيدة وضوابط الشراكة في الوطن ومستلزمات التناوب السلمي على السلطة، وتنصل من واجباته الوطنية وتنكر لمطالب شعبه الملحة والضاغطة، وترك الظلم أساسا للحكم.

فما دامت عناصر القوة، هي عمليا اليوم بيد نظام يسوق شعبه كالقطيع، ولا يقيم وزنا ل"شركائه" السياسيين ولا لخصومه المعارضين.. فإنه قد ينجح في تمرير خياراته وتكريس "تعديلاته" وقد يفشل فيها أيضا(وعندها ستفتح بوابات المجهول).. لكنه في حالة "نجاحه"(وهو أمر وارد)، فإن ذلك لن يغير من واقع الناس ولن يشكل هذا "النجاح" إضافة نوعية لاقتصاد البلد ولا لمعاش ساكنته.. فستظل البلاد عاجزة عن توفير حاجاتها الغذائية والدوائية والأمنية بمفردها- وهذا عيب خلقى أولى بالعلاج من المباهاة ببطولات، مسرحها علم ونشيد، لا بواكي لهما.

فموريتانيا اليوم محاطة بحرائق مستحكمة الاشتعال، تمس كينونتها ويستحيل أن تبقى بمنآ عنها.. ورغم ذلك تتجاهل السلطة فيها وضع البلد الداخلي الهش والمهلل، الذي تجسده التركيبة الاجتماعية  وأفاعيل النشأة، التي نسجتها أياد استعمارية وكرسها جشع نخبة انفتحت شهيتها أمام المال العام واستمرأت المتاجرة بالمصالح العليا للبلد: برا وبحرا وجوا وفي الداخل والخارج.. حتى صار الصهاينة يبتزوننا دائما في لحمتنا الوطنية، التي حولها ضعف الأنظمة المتعاقبة ولا مشروعيتها، وانتهازيتها وبعدها عن نبض شعبها إلى سلعة،تبيعها لها- عند ما تحاصرها الأزمات- وتشتريها منها بأغلى الأثمان.

 

ملامح المرحلة المقبلة:

 

بغض النظر عن القراءات التي تتوقع مفاعيل سريعة للتطورات الحالية باتجاهات ادراماتيكية متعددة.. فهناك واقع سيظهر عند تلاشى غبار "معركة" العلم والنشيد والذي سيحصل بأسرع مما نتوقع.. وعندها سيكتشف الناس أن لا جديد حصل لواقعهم الضاغط.. وأن النظام ممعن في مسكناته الداخلية والخارجية، دون أن يقتحم المعضلات الضاغطة ولا التهديدات الوجودية الماثلة، إلى أن تدخل البلاد في استحقاقات 2019، التي بدأت بوادرها تطل قبل الأوان(يعكس ذلك تعطشا لانتهاء المرحلة.. وقد يكون جزءا من لعبة المسكنات).. وستسعى التركيبة الحاكمة إلى تقوية صفوفها بعناصر من طينتها، تعيش اليوم تهميشا مقصودا، ثم بيافطات سياسية، تكون مؤهلة لتغيير ألوان الصورة الحالية وستقدم مرشحا من أهلها، يصون "المكتسبات الشخصية الحالية" ويكون ضمانة للسلامة من الملاحقة المستقبلية، تعززها جوقة التصفيق، التي قايضت مصالح بلدها بمصالحها الذاتية.. وعليها تتكئ الدولة العميقة.

في حين سيسعى الطرف المعارض الذي قد يرفض الدخول في تلك اللعبة إلى تحريك السفينة في اتجاه أخر، وقد لا يتمكن من تغيير البوصلة ما لم يحصل تناقض يشظي التركيبة الحالية.. وهذا أمر جائز، بفعل فردانية المشهد الحالي وهشاشة الولاء المبني على ثنائيتي الخوف والطمع.. خيار قد يذكيه إعلان الرئيس ولد عبد العزيز المبكر عدم ترشحه لمأمورية ثالثة، الشيء الذي  سيضعف من قبضته على الشأن العام وقد يحوله إلى رهينة عند أصحاب الأثرة والشوكة في نظامه، حتى تنتهي بقية مأموريته ب"سلام".

 

++++++

 

واقع سيضع البلاد في وضع يحتاج إلى عقلاء، يدركون أن ميكانيزمات المرحلة السابقة، قد تآكلت وتبخر نبض الحياة فيها، وليس أمام البلاد، سوى تدشين وجهة جديدة تشكل قطيعة مع هذا الماضي.. فالتضحية بمصالح الوطن لصالح رضى الحاكم والتجاهل الكارثي للتحديات الوجودية.. والتنكر لمطالب المستقبل القريب، الذي ضعفت فيه المكابح القبلية والسلوكيات الموروثة، هو أمر يقدم لنا المحيط الإقليمي مخاطره ومنزلقاته الماثلة.. فنحن اليوم أمام أجيال لا ترضى بتهميشها ولا بالاستحواذ على قوتها ومقدرات بلدها- هذا في أحسن الاحوال.

أماعند ما يترسخ فشل مشروع الدولة الوطنية لا قدر الله، فلا مناص إذن من الرجوع إلى آليات ما قبل الدولة.. وعندها ستصبح البلاد نهبا لشذاذ الآفاق، وستتحول إلى فريسة ينهشها القريب قبل البعيد، دون رحمة ولا شفقة.

إنه مصير لا يرضي ذو الكرامة ولا يلبي طموحات أصحاب الأهداف العالية.. فتغيير العلم او النشيد لن يغيرا من هذا الواقع المقلق شيئا.. فجدار الخوف قد سقط وآفاق الأمل قد سدت، ولم يبق إلا خيار التغيير السلمي المستبعد، أو ترك العواصف تفعل فعالها في مركب نحن جميعا ضمنه، وسنكون كلنا مسؤولين عن المصير الذي قد يتعرض له.

محمد المختار ولد محمد فال- كاتب صحفي