الروائية السيراليونية أميناتا فورنا في «ذاكرة الحب»: جمالية الحكاية في قلب توثيق المأساة

أحد, 01/05/2016 - 20:34

«بالحبِ وحدهُ تُبعثُ الأشياء»، مثل من أمريكا اللاتينية قرأتهُ في مقدمة ترجمة صالح علماني لكتاب ماركيز «عن الحب وشياطين أخرى». لم يفارقني تأثير هذا المثل وأنا أتابع تفاصيل الحرب الأهلية في سيراليون، البلد الأصلي للروائية أميناتا فورنا عبر روايتها المؤثرة «ذاكرة الحب»، حيث تروي مأساة ذلك البلد الجميل عبر قصصِ حب تتناغم مع عنوان الكتاب، انطلاقاً من قصة حب أساسية بدت كشجرة تتفرع منها أغصان حكايات مرتبطة بها، أو كنهر تتفرع منه قنوات وجداول تروي ذاكرة الحب رغم الألم.
تتمحور القصة الأساسية حول مصائر ثلاثة أشخاص هم يوليوس وصافيا زوجته وإلياس زميل يوليوس في الجامعة. يحتضرُ إلياس كولي أستاذ التاريخ المتواضع على سريره في أحد مشافي العاصمة ويروي ذاكرة حبه للمعالج النفسي البريطاني الشاب أدريان، القادم كمتطوع ليشارك في حملة استشفاء لضحايا الحرب عبر تشجيعهم على رواية آلامهم. تبدأ أحداث الرواية بوصف سرير إلياس في المشفى ونحوله حيث بالكاد يُلاحظ جسده تحت الغطاء. يتذكر قصة حب حياته مع صافيا، ويقول لأدريان: «ذات صباح بينما كنت أمشي باتجاه الجامعة سمعتُ أغنية انبعثت من راديو على رفٍ عبرتُ قربه، أغنية من البعيد، البعيد جداً، عن حب ضائع. هكذا حين تلمح امرأة للمرة الأولى، امرأة تدرك أنك تستطيع أن تحبها. حين تتجاوزك تلك المرأة تشعر بالفقدان وبهاجس الفقدان».
الفقدان الذي سيقصف زواج يوليوس وصافيا سريعاً إذ يرافقنا يوليوس في الجزء الأول من الرواية ثم يموت بشكل تراجيدي بعد التحقيق معه في قسم البوليس. لن نجزم كقراء ما إذا كان إلياس هو من وشى بصديقه أم أن الانقلاب وما رافقه من اعتقالات وتصفيات هما من خطف الأكاديمي الطموح.
نقرأُ في الفصل  التاسع والعشرين كيف استلمت صافيا جثمان زوجها يوليوس يعد أن قضى  نحبهُ أثناء التحقيق معه» «مدت يدها وسحبت الشرشف؛ آآآه ! كيف يصف الناس لحظات تغيير مصيرية كهذه! يقولون غالبا كل حركة تبدو بطيئة بشكل مفاجئ. كم هذا حقيقي؟ أتوقع بأن خلايا الدماغ تجهد وتصارع لتقبل فداحة اللحظة؛ مثل هكذا لحظة. بعد ذلك لم يتبق لك سوى أجزاء مفككة؛ هذا الشكل الممدد على العربة. يا للسكون المرعب لهذا الجسد؛ حالما تغادره الحرارة والضوء. قناع الموت؛ نظرة حادة غريبة عنك؛ أنت الحي».
المشفى المتواضع (وهو أهم جغرافيات الرواية) يتم استخدامه بأشكال شاملة من إسعافات أولية بسيطة لمداواة جروح إلى مكان لإجراء عمليات جراحية أعقد كبتر الأعضاء المصابة أو عمليات توليد، وكذلك لاستشفاء ضحايا الحرب. مصح لعلاج الذاكرة المصابة ومسرح لسرد كل أحداث الرواية.
نتعرف على كاي الطبيب الشاب الطموح صديق نينبا (ابنة الياس كولي) في الجامعة والحبيب الشغوف. كاي الذي سيفهم بعد زمن مرير أسباب تمزق علاقته مع نينبا وسر ابتعادها وهروبها من كل مكان، سيذكّرها بأن أباها وشى بأصدقائها حين قاموا بالتظاهرة الطلابية حيث اختفى كل من شارك بها إما موتاً أو إعاقة، أو كمرتزقة في حرب سيخسر فيها الجميع.
ستفهم نينبا لم منعها والدها من الذهاب إلى الجامعة في ذلك اليوم، ولن تسامحه حتى في اللحظات الأخيرة من حياته. لن يتسنى لها ذلك إذ تموت قبله في ولادتها العسيرة لابنتها من أدريان.
عبر محاولات كاي في الذهاب إلى أمريكا من خلال مساعدة صديقه الذي سبقه إلى ضفة الحلم، تمر أيام كاي في المشفى دون حساب للزمن. يقطب جرحاً هنا، ويبتر ذراعاً أو ساقاً هناك. يحقنُ مريضاً كي ينام، أو يساعد شخصاً على الموت بأقل ألم ممكن. تمر أيامه على تهويمات ذاكرته مع نينبا عن أوقات وشكل لقاءاتهما، وهذا يصيبه بما يشبه الشلل المستسلم لقوة حضور ذاك الحب في ذاكرته؛ كما نقرأ في  «الفصل الثامن والعشرين:
«منحت الحرب تكثيفاً جديداً لممارستهما الحب. كانا يلتقيان كلما تمكنا من ذلك في ساعات حظر التجول أو العمليات الجراحية. ظلام تام؛ لم يكن هناك ضوء ولا غاز للطبخ. كانا يذهبان أحيانا بدون كلام ولا طعام. كل ما كانا يفعلانه فقط هو ممارسة الجنس. تأتي ذكريات تلك الممارسة إلى كاي من اللامكان. يقف ممسكاً بفنجان ورقي زهري، حلو ورائحته كرائحة الكحول. الغرفة مزدحمة وحارة ذكريات نينبا؛ رائحتها وطعمها؛ جلدها الناعم وعضلات مؤخرتها؛ الرطوبة الذائبة تصعقه كانفجار. لا يمكنه فعل شيء حيال ذلك سوى أن يثبت في مكانه وينتظر تلك اللقطات أن تعبر».
يحيا كاي يومياته كمسرنم بالكاد ينام تاركاً نفسه كي تستنفده الذكريات وواجبات المشفى التي لا تنتهي، وفي الوقت الذي يجب أن يرتاح قليلاً في بيت أخته يكرس نفسه لعباس، ابن أخته الوحيد واليتيم؛ مثل آلاف الأطفال من جيله؛ فقد عباس والده في حروبِ الآخرين.
لا أحد يعرف كم من الأطفال أخذوا للقرى كي تتم تنشئتهم بهذه الطريقة. أطفال كابن ماري يجمعهم قاسم مشترك واحد؛ جميعهم ولِد بعد تسعة أشهر من اجتياح المتمردين للمدينة، الاجتياح الذي شوه كل شيء ببشاعة وحشية تتجسد بمشهد اغتصاب جماعي لإحدى ممرضات المصح من قبل فتية مرتزقة على مرأى من كاي، إذ تم اختطافهم عنوة كي يعالجوا القائد الجريح. تنقذهم صدفة عجيبة من الموت الموعود عبر اقتحام الجيش للمكان وتحريرهم.
ما المجدي في الكتابة عن الحرب بدلالة الحب وقد مات الأحباب ولم يبق من بيوت يعود إليها أصحابها؟ ببساطة لأن الحرب، أي حرب، ستنتهي وسيترتب على الناجين/ الشهود أن يدلوا بشهادتهم للجيل الذي أتى للحياة  في  الحرب فورثَ ذاكرة من دم وخراب.
قد يكون الفن، أكثر من أي أداة أخرى، الأقدر على فهم مآسي الشعوب بشرط انحيازه الأساسي لرواية الحقيقة ما أمكن. يقال: لا تُفهم الحياة إلا بشكل روائي. وفي روايتها المريرة والعذبة تستعيد فورنا أبطالها، والتي تزعم بأنهم شخوص متخيلة أو روائية بنتها استناداً إلى  حكايات مبعثرة ومتفرقة. لكن المواضيع حقيقية، كما هي البلاد التي مزقتها الحرب. الروائية تدعوهم إلى الاستشفاء وتساعدهم عبر الحب الذي صانَ الأفراد من الانهيار التام وحمى الذاكرة من التشوه. بالحب وحده استطاعت الكاتبة أن تنقل لنا الحكاية بأكبر قدر من الأمانة الروائية والواقعية وبأقل قدر من التخييل، بشكل دقيق وحساس حيث لا تنتفي أهمية التوثيق التاريخي للمأساة، ولا يُنتقص من جمالية الحكاية رغم ألمها.
«ذاكرة الحب» رشحت لجوائز أدبية مهمة، منها جائزة الأدب الأوربي 2013، وفازت بجائزة  أفضل كتاب للكومنولث 2011، ووصلت إلى تصفيات جائزة أورانج في بريطانيا 2011.

Aminatta Forna:
The Memory of Love.
Grove Press, London 2014.
464 pp.