لسبب رهيب.. خليفة عباسي يقتله الأتراك بماء مثلّج

أربعاء, 15/05/2019 - 06:05

يؤكّد ابن الطقطقا أو الطقطقي، محمد بن علي بن طباطبا المتوفى سنة 709 للهجرة، أن الأتراك استولوا على "المملكة" العربية في بغداد ويقصد بها الخلافة ودار الخلافة، منذ منتصف القرن الثالث للهجرة.

ويحدد ابن الطقطقي في مصنفه الشهير (الفخري في الآداب السلطانية) تاريخ ما سمّاه استيلاء الترك على الخلافة، وهو منذ تاريخ مقتل الخليفة المتوكل سنة 247 للهجرة، فيقول: "إلا أن الأتراك كانوا قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة، واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم، كالأسير، إن شاؤوا أبقوه، وإن شاؤوا خلعوه، وإن شاؤوا قتلوه!".

فإن كان الإبقاء على خليفة المسلمين، بمعنى دعمه وتنصيبه، من ممكنات وواقعيات السياسة والتدخل الإقليمي، حتى الوصول إلى الخلع، بمعنى الإسقاط والإتيان بسواه، فإن ظاهرة "قتل" خليفة المسلمين على يد الترك، في حال تضارب المصالح، أضحت واقعاً سياسياً وأمنيا، حسب ما أفردته أمّهات كتب التاريخ العربي والإسلامي التي نقلت تفاصيل مقتل أحد خلفاء بني العباس، وهو المعتز بالله، على يد الأتراك، وبطريقة قد لا يتخيلها عدد من القراء، خاصة أن قاتلي الخليفة كانوا قد قاموا بلطمه، وكان يتّقي اللطمات، بيديه، بكل ما يعنيه هذا من إهانة غير مسبوقة، لرجل بمنصب هو الأكبر في تاريخ الإسلام السياسي، الخليفة.

كانوا يضربونه بالدبابيس!

فهل يتخيل القارئ، خليفةَ المسلمين العربي، وهو يتلقى اللطم ويتّقيه بيديه؟

بويع المعتز بالله، بالخلافة، عام 252 للهجرة، وكان الأتراك قد وصلوا إلى مرحلة من النفوذ والتأثير على دار الخلافة، إلى الدرجة التي تهامس فيها، خواصّ الخليفة ومنجّموه، سؤالاً عن مدى السنوات التي سيعيشها وعدد السنوات التي سيقضيها خليفة للمسلمين؟ ليأتي الجواب: "مهما أراد الأتراك!" بحسب ما ورد في (الفخري) سابق الذكر، والذي يورد قصة تعذيب وإهانة ولطم الخليفة ثم قتله قائلاً: "ثم إن الأتراك ثاروا بالمعتز وطلبوا منه مالاً، فاعتذر إليهم وقال: ليس في الخزائن شيء. فاتفقوا على خلع وقتله، فحضروا إلى بابه، وأرسلوا إليه وقالوا له: اخرج إلينا. فاعتذر بأنه شرب دواء، فهجموا عليه وضربوه بالدبابيس، وكان بعضهم يلطمه وكان يتّقي بيده!".
وينتهي الفخري بإيضاح كيفية قتل المعتز بالله، عبر وضعه في مكان وسدّه، حتى مات، سنة 255 للهجرة.

لم يوضح الفخري، كيفية قتل المعتز، بالتفاصيل، إذ اكتفى بالقول عن الأتراك: "ثم جعلوه في بيت وسدّوا بابه حتى مات". لكن مؤرخين آخرين ذائعي الصيت، فعلوا ذلك.

يورد ابن الأثير الجزري، والمتوفى سنة 630 للهجرة، في مصنفه واسع الشهرة والانتشار في عالم العرب والمسلمين، والمعروف بـ(الكامل في التاريخ) تفاصيل قتل المعتز بالله، ودور الترك في ذلك، فيقول: "وكان سبب خلعه، أن الأتراك ساروا إلى المعتز يطلبون أرزاقهم.. فلما رأى الأتراك أنهم لا يحصل لهم، من المعتز شيء ولا من أُمّه، (وأنه) ليس في بيت المال شيء.. فساروا إليه وصاحوا".

أسماء الأتراك الذين دخلوا عليه وشاركوا بقتله

يورد ابن الأثير أسماء من دخلوا على الخليفة، وهم، صالح بن وصيف التركي الشهير، ومحمد بن بغا، وتركي شهير آخر، هو (بابكيال) كما في الكامل في التاريخ، فيما يتم ذكر اسمه بـ(بايكباك) في مصادر أخرى. وينقل ابن الأثير ما نقله سواه، من اعتذار الخليفة من الخروج إليهم، بحجة تناوله دواء اتقاء لشرهم أو ضعفاً وعجزاً، ويقول إن جماعة منهم دخلوا إليه "فجرّوهُ برجله إلى باب الحجرة، وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه وأقاموه في الشمس، في الدار".

وتظهر الحادثة التي اتفق على تفاصيلها، كل من نقلها، من أمهات التاريخ العربي والإسلامي، أن حرّ الشمس كان شديدا، عندما أقاموا الخليفة المعتز تحتها، تعذيباً وتنكيلاً، فكان لشدة حرّها لا يقوى على ترك قدميه الاثنتين، معاً، واقفتين على الأرض، فكان "يرفع رِجلاً ويضع أخرى لشدة الحرّ!" يقول ابن الأثير ويؤكد قصة قيام الأتراك بلطم الخليفة واتقائه اللطم، بيديه: "وكان بعضهم يلطمه، وكان يتقي اللطم بيديه".

ما أغفله الفخري في قتل الخليفة، يفصّله ابن الأثير، ويوضح ماهية ما وضع فيه، فمات منه. ويقول: "ثم أدخلوه سرداباً، وجصّصوا عليه، فمات" وجصصوا، أي أنهم وضعوا مادة الجص المعروفة في البناء، وذلك كي يموت دون أن تبدو عليه مظاهر الموت قتلاً، يلمح ابن الأثير: "فلما مات، أشهدوا بني هاشم والقواد وأنه لا أثر فيه، ودفنوه مع المنتصر".

يذكر أن جميع ما سبق وورد عن قيام الأتراك بخلع وقتل الخليفة المعتز بالله، يعتبر من أساسيات رؤية المؤرخين المسلمين التاريخية، ولم يختلفوا إلا بتفاصيل صغيرة، لا تؤثر على جوهر القصة وحقيقتها. وها هو الطبري، محمد بن جرير 224-310 للهجرة، في تاريخه الشهير، والمعروف باسم (تاريخ الرسل والملوك) يتحدث عن اجتماع الأتراك على خلعه، فأرسلوا إليه ليخرج، ثم إلى نهاية القصة التي يورد فيها، ضربه بالدبابيس ووضعه تحت الشمس، ثم القيام بلطمه، وهو يتّقي، ويقول له الضارب: "اخلعها" مضيفا عبارة "وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه من الخلافة".

ويبدو من قصة الطبري، أن تعذيب الأتراك للخليفة، لم ينته بعدما خلع نفسه تحت التعذيب، بل استمر، فيقول: "لمّا خلِع دفع إلى من يعذّبه" ويضيف أنه تم منعه من الطعام والشراب لثلاثة أيام، حتى إنه توسّل شربة ماء من بئر "فمنعوه!" ويشرح كيفية قتله: "ثم جصصوا سردابا بالجص الثخين، ثم أدخلوه فيه، وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميتاً". ويورد إشارة تفيد بقتله بهذه الطريقة كي لا تبدو عليه آثار الموت قتلاً: "وأنه صحيح لا أثر فيه".

بالماء المثلَّج.. هكذا قتل الأتراك الخليفة بدون أثر على جسده!

الحافظ المؤرخ الكبير ابن كثير، 701-774 للهجرة، في تاريخه الشهير (البداية والنهاية) وهو عاش غالبية سني عمره، بعد وفاة صاحب (الفخري في الآداب السلطانية) الذي مات سنة 709، للهجرة، يورد كل تفاصيل قصة تعذيب الأتراك للخليفة المعتز، ثم قتله، مورداً جميع التفاصيل في رواية واحدة غير منقوصة، ويبدأ بالقول: "واجتمع الأتراكُ على خلعه فأرسلوا إليه ليخرج لهم.." إلى نهاية القصة التي تخللها كل ما سبق، مع إضافة أنه وبعدما أُكره تعذيباً على خلع نفسه من الخلافة "سلّموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المَثلات" أي العقوبات العنيفة. موضحاً كيف تم وضعه في الجصّ ليموت بدون آثار قتل بادية عليه: "فاستلّوه من الجص سليم الجسد، فأشهدوا عليه جماعة من الأعيان، أنه مات وليس به أثرٌ".

لكن، هل هذه هي الطريقة الوحيدة التي أخفى فيها الأتراك، آثار جريمة قتل الخليفة؟

توضح مصادر تاريخية ذات وزن في التصنيف التاريخي العربي والإسلامي، طريقة الأتراك بإخفاء أي أثر يدل على قتلهم الخليفة كي يبقى صحيح الجسم أمام الشهود، عبر رواية مختلفة لموته، وردت في (سير أعلام النبلاء) للذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (673-748) للهجرة.

يقول الذهبي في معرض ترجمته الخليفة القتيل: "وكانت دولة المعتزّ مستَضعفة مع الأتراك" مشيراً إلى أن الخليفة كان "يخاف" أحد الأشخاص، وهو صالح بن وصيف التركي، الذي سيحضر تالياً في الرواية، ليكون أحد منفّذي قتله وتعذيبه.

الذهبي يخرج من رصانة المؤرخ متأثرا بحال المعذب القتيل، وهو يحكي قصة قتل المعتز، فيقول: "جرّوه وضربوه وأقاموه في الحر، فبقي المسكين يتضوّر وهم يلطمونه!".

وعن كيفية قتله دون ترك أي أثر بادٍ على جسده، ينقل الذهبي تفصيلا مروعاً: "ثم إن رؤوس الأتراك، أخذوا المعتز بعد خمسة أيام، فأدخلوه حماماً، وأكربوه حتى عطش، ومنعوه الماء حتى كاد، ثم سقوه ماء ثلجٍ فسقط ميتاً، رحمه الله". وهي طريقة قتل دون ترك أي أثر باد على جسم القتيل الذي يرغم على شرب الماء، بعد إخضاعه لفترة تعطيش مشددة، يقوم بعدها بتجرع الماء المثلج، فيقتله.