قرية يتحدث سكانها لغة المسيح

خميس, 27/12/2018 - 16:46

قبل ثلاثين عاماً، كان هناك نحو خمسين ألف مسيحي يعيشون في جنوب شرقي تركيا ويتحدثون بإحدى لهجات اللغة الآرامية وتُعرف بأنها لغة المسيح.

الآن تقلص العدد إلى ألفين وخمسمئة شخص فقط.، الزميل جيرمي بريستو زار المنطقة وتحدث الى أحد أبرز الشخصيات فيها وعلم منه أن الملوك الثلاثة (الذين ورد ذكرهم في الأناجيل حيث قاموا بزيارة مريم العذراء بعد وضعها للمسيح عيسى حاملين معهم ثلاث هدايا) قد يكون عددهم في الواقع اثني عشر.

جلس العمدة حبيب إلى طاولته مرتدياً قميصاً أنيقا بعد أن كان قد نزع للتو ملابسه الخاصة بالمزرعة. يبدو رجلا لطيفا في الخمسين من عمره إلا أنه قادر على تشكيل حروفه بهدوء: إنه الوصي على لغةٍ تحتضر.

يغمس قلمه في محبرة، يتوقف للحظات ثم يبدأ في الكتابة. تتحرك ريشة الكتابة من اليمن لليسار لترسم بلونٍ أسود أنيق خطوطاً ورموزاً بعضها رأسي وبعضها مائل والبعض الآخر أفقي مع جمالية خاصة في النهاية. ويعمد حبيب إلى وضع مثلثات أحياناً ودوائر أحياناً أخرى وفي بعض الأحيان يزين الحروف بنقطة لتحويلها لحروف ساكنة.

النص الذي تشكل أمامي يشبه العربية الا أنه ليس كذلك أو ليس بالضبط. إنه سُرياني والسُيريانية احدى اللهجات الآرامية القديمة.

يقول حبيب:" انظر دعني أُريك. هذا الحرف هو "أولاف" في لغتنا ولكنه "ألف" في العربية وهذا هو حرف "لوماد" ويشبه في العربية اللام. و"هي" هو حرف "الهاء". عند وضعها مع بعضها نحصل على كلمة "ألوهو" بالأرامية ويقابلها في العربية "الله". هناك الكثير من الكلمات في القرآن مستمدة من الآرامية".

لآلاف السنين، كانت الأرامية لغة مكتوبة ومقروءة في أنحاء الشرق الأوسط، وقد كانت اللغة التي يتحدثها المسيح وأتباعه، كما كُتب الكتاب المقدس اليهودي (التلمود) بالأرامية ويقول الباحثون ان العربية مشتقة منها.

ولكن الآن لو كانت الآرامية سلالة حيوانية لتم إعلان خطر انقراضها. حبيب وهو مسيحي سيرياني يعد واحداً من ألفين وخمسمئة سيرياني فقط يعيشون في ذاك الجزء النائي من جنوب شرقي تركيا. ويطلق هؤلاء على مسقط رأسهم في تلك المنطقة "طور عابدين"، ويعني باللغة الأرامية : تل عباد الله.

منذ زمن بعيد، كانت هناك حضارة مسيحية مزدهرة في هذه المنطقة. فالمشهد هنا يزخر بمئات الأديرة والكنائس التي تحول العديد منها الآن الى أنقاض والبعض الآخر تعلوه المساجد. وأقرب مثال على ذلك، قرية "حاح" التي يقيم بها حبيب ويشغل منصب العمدة فيها.

ويقطن في هذه القرية عشرون عائلة سيريانية فقط يقيمون بين أنقاض ما كان يوماً مدينة كاتدرائية بآلاف المنازل. بيوتهم مبنية بين ما تبقى من المباني العظيمة، الجدران المتداعية والقناطر العملاقة تظللهم.

قبل ستمئة عام، تعرضت قرية "حاح" للتدمير على يد جيوش تيمور لنك. كانت هذه فقط كارثة واحدة ضمن تاريخ طويل من الاضطهاد المتقطع وأعمال الترهيب التي عانت منها الأقليات الدينية مثل السيريانيين في هذا الركن من الشرق الأوسط.

نجت عائلة حبيب من هذا كله بفضل صمودها في مزرعتها الأشبه بالقلعة والتي ما تزال تطل على القرية. وتقيم حالياً خمس عائلات أخرى مترابطة في هذه القلعة حيث الجدران الشاهقة تبدو من الخارج ومزارع في الداخل.

يقول حبيب ان عائلته Beth Henno موجودة منذ قدم التاريخ إلا أن الكثير من العائلات المسيحية إلى إسطنبول والسويد وألمانيا وأستراليا.

وفي العقود الثلاثة الأخيرة باتوا محاصرين في الحرب القاسية بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني. وقد تلقوا التهديد وأخرجوا من ديارهم من قبل طرفي الصراع.

في سنوات الثمانينات، عاش نحو خمسين ألف شخص في طور عابدين ولكن ما تبقى الآن لا يتجاوز ٥٪ من هذا العدد. وقد بذل حبيب وزوجته ليمان أقصى ما بوسعهم لزيادة العدد فأنجبوا سبعة أطفال.

مشينا في أنحاء القرية، في ظلال الأبراج المتداعية والأقبية المحطمة ودخلنا باحة كنيسة Yoldath Aloho أو أم الله. وبينما كنت أدخل صحن الكنيسة كنت أعلم أنني أقف بجانب التاريخ.

الجدران والفجوات داخلها زخارف منحوتة تغطي القناطر التي تدعم قبة ثمانية شاهقة. في تلك البقعة، ما يزال حبيب وأهالي قريته يأتون لإنشاد ترانيم القديس افرايم كما فعل أجدادهم منذ بنيت الكنيسة قبل نحو 1500 سنة.

سيتواجدون هنا خلال عيد الميلاد. أخبرني حبيب قصة أسطورة محلية تقول إنه قبل ما يزيد قليلا عن ألفي عام ظهر في سماء أحد الليالي نجمٌ مبشر، وقد تجمع اثنا عشر ملكاً من الشرق في "حاح" حيث اُختير ثلاثة منهم للذهاب إلى بيت لحم محملين بهدايا لتحية المسيح في مهده. وقد أعطتهم مريم الممتنة قطعة من القماش الملفوف به الرضيع. عندما عاد الملوك الثلاثة لـ"حاح" كانت قطعة القماش المقدسة قد تحولت إلى ذهب، فأصيب الملوك بالذهول من المعجزة لذا بنوا هذه الكنيسة.

في طريق عودتنا الى باحة الكنيسة، سمعت أطفال القرية يرتلون بالأرامية في أحد الصفوف. سألت حبيب عن مستقبل الجالية السيريانية في طور عابدين فقال: لن نتنازل ولكني أخشى أننا أصبحنا في النهاية قلةً قليلة".