لماذا لا يكشف معظم ضحايا الاغتصاب تفاصيل الحادث؟

جمعة, 23/11/2018 - 16:21

كانت في السادسة عشرة من عمرها وكان هو في الأربعين، وقالت لنفسها إن الأمر لم يعدو كونه علاقة عاطفية عابرة.

لكن جسدها وعقلها كانا يبوحان بغير ذلك، فكانت تشعر أحيانا وكأنها منفصلة عن جسدها، وكانت لا تقوى على التوقف عن الارتجاف بشكل واضح ما إن تراه. كانت الرعشة تتملكها من أعلاها لأسفلها وكأن زلزالا ضرب جسدها بالكامل.

لم تعهد تلك الأعراض من قبل ولم يسبق أن جمعها "لقاء" برجل يكبرها سنا، فلابد أن هذا هو السبب، أو هكذا أخبرت نفسها محاولِة ألا تعير الأمر اهتماما.

ومضى على ماريسا كوربل أكثر من عشر سنوات حتى تنظر إلى ما حدث على أنه اعتداء وليس علاقة. وتقول: "حملت نفسي اللوم بالكامل لتسع أو عشر سنوات". وبعد سنوات قضتها في العلاج، تعمل ماريسا، التي أصبحت أم ومحامية اليوم، لصالح مؤسسة في أوريغون للدفاع عن الناجين من الاعتداء الجنسي.

وحتى يومنا هذا ينتاب ماريسا أحيانا عرض الشعور بالانفصال عن جسدها، وهو الشعور الذي انتابها أثناء تعرضها للاعتداء. ولا سبيل لاستيعاب ما حدث لها إلا بالعودة بذاكرتها مرة أخرى للصدمة، وتقول "أتذكر تجارب جنسية تجتاحني وتجعلني أغادر جسدي رغما مني" - هكذا تقول بنوع من البرود، مضيفة "لدي علاقة معقدة مع هذا الانفصال عن جسدي إذ أعي أنه من علامات الصدمة. وأنا أعلم أنه لم يكن الاستجابة الأفضل لما حل بي".

ولم تكن ماريسا كوربل هي الوحيدة التي عانت من مثل هذه التجربة، فقد أظهر تحليل بيانات مجمعة من 28 دراسة لفتيات ونساء في سن الرابعة عشرة أو أكبر ممن تعرضن للجنس دون رغبة منهن، قهرا أو غصبا أو تهديدا، أن 60 بالمائة من الضحايا لم يعترفن بتعرضهن لاغتصاب.

ويبرر هذا السبب وراء عدم إبلاغ الضحية مباشرة عن تعرضها لاعتداء، إذ يمضي وقت لتتمكن بالإقرار بتعرضها له.

ولكي يتسنى معرفة أن أمرا ما وقع دون موافقة الضحية يتعين النظر إلى علامات معينة تصحب "اضطراب ما بعد الصدمة" ومنها التجنب المعنوي والسلوكي لما يُذكر بالصدمة. وفي الواقع فإن 75 بالمئة ممن يلجئون لمراكز تابعة لمنظمة مساعدة ضحايا الاغتصاب في انجلترا وويلز يطلبون عونا جراء تعرضهم لاعتداء قبل عام أو أكثر.

وناهيك عن عدم وجود علاقة بين الفترة التي تمضي قبل إبلاغ شخص باعتداء ومصداقيته، فهناك أيضا من العوامل الاجتماعية والنفسية ما يحول دون تمكن الضحية من استيعاب ما وقع لها على الفور.

عدم التأكد

لا يمكن للكثيرين التثبت من أن ما وقع لهم كان اغتصابا "فعلا"، فتعريف الاغتصاب، قانونا، يختلف بين بلد وآخر، وأحيانا بين إقليم أو ولاية داخل نفس البلد. ففي الولايات المتحدة نجد أن ولاية ميزوري تحدد سن الموافقة على ممارسة الجنس بـ 14 عاما (على ألا يزيد عمر الطرف الآخر عن عشرين عاما)، أما في ولاية إلينوي المجاورة فسن الموافقة على ممارسة الجنس هو 17 عاما.

كما يعكس تفاوت القوانين الأعراف الاجتماعية المتباينة، ما يجعل الضحية غير قادرة على إدراك تعرضها للاغتصاب.

وتتمثل الصورة النمطية للاغتصاب "الحقيقي" في أن يلج ذكر غريب عنوة امرأة مقاومة في مكان عام. وحين يقع اعتداء جنسي بخلاف تلك الصورة يصعب على الضحية إدراك أنه كذلك، إذ يصنف العقل التجارب وفق ما تعلمه من أوصاف من بيئته المحيطة.

لكن إحدى أكبر المشاكل في هذا التصور تكمن ببساطة في أنه يجافي الحقيقة، فالاغتصاب يحدث بأشكال عدة وظروف مختلفة، بل أغلب ما يحدث من اغتصاب لا يأتي من غريب يوقع بضحيته في شارع مظلم!

وقد أظهرت دراسة أجريت عام 2016، وشملت كافة حالات الاغتصاب المبلغ عنها لجهة مركزية بالشرطة البريطانية على مدى عامين، أن 400 حادث اغتصاب لم يكن بينها حادث واحد يتفق والتصور السابق لرجل غريب يحمل سلاحا ويغتصب امرأة تقاومه بمكان عام تحت جنح الظلام.

فمثلا يكثر ألا تقاوم ضحية الاغتصاب بشكل ظاهر، إما لغيابها عن الوعي أو لرعبها الذي يجعلها بلا حراك، إذ ذكر 70 بالمئة من نساء لجأن لمراكز متخصصة في إسعاف حالات الاغتصاب في استوكهولم أنهن أصبن بالشلل المؤقت جراء الخوف، وذلك وفق دراسة أجريت عام 2017، ولم يكن ذلك طبعا قبولا منهن بل جاءت ردة الفعل على نحو بيولوجي معتاد في حال التعرض للخطر.

كما يشيع أيضا عرض الشعور بالانفصال عن الجسم، وهو الأمر الذي مرت به ماريسا كوربل إبان التعرض للتهديد. وتقول زوي بيترسون، متخصصة في علم النفس السريري ورئيسة مبادرة معهد كينزي لأبحاث الاعتداء الجنسي التابع لجامعة إنديانا: "من الشائع حين يتعرض المرء لتجربة أليمة لا مناص منها أن يلجأ لمهرب نفسي".

وتقول بيترسون إن الذهن قد ينأى بنفسه عن الحدث لمساعدة صاحبه على تجاوز اللحظة، وإن عطل هذا قدرته على المقاومة. ومن المؤسف أن تلك الاستجابة تجعل الشخص غير قادر على إدراك وقوع الاغتصاب "فعلا" بحسب ما تعلمه أغلبنا - ولذا فإن النساء اللاتي لا يقاومن بشكل ظاهر "يكن أكثر إحجاما عن وصف ما تعرضن له بالاغتصاب".

ومن التصورات الأخرى الشائعة أن ضحية الاغتصاب دائما أنثى، ومن المؤلم حقا أن معظم الرجال الذين تعرضوا لانتهاك جنسي كأطفال، بل واغتصاب ككبار، لا يصفون ما وقع بهم كذلك. وطلبت دراسة أجرتها بيترسون وفريقها من 323 رجلا الإجابة على أسئلة على الإنترنت حول تجاربهم الجنسية، ووجدت أن 24 بالمئة فقط ممن تعرضوا لاغتصاب وهم كبار وصفوا ذلك بالاغتصاب.

يدرك ماثيو هايز (ليس اسمه الحقيقي)، ويعيش في ولاية كاليفورنيا، صعوبة استخدام كلمة "اغتصاب". لقد أدرك أن العلاقة التي كان بها في مقتبل العشرينات لم تكن طبيعية فقد كانت رفيقته تلجأ إلى تهديده، وليس إلى العنف البدني، من أجل ممارسة الجنس معه، لذا رفض في البداية وصف الأمر بالاغتصاب.

يشير هايز إلى ثلاثة أمثلة كانت فيها رفيقته في غير وعيها لتعاطيها مسكرا أو مخدرا وكانت تتصرف بشكل مخيف، قائلا: "في إحدى المرات ظلت تضرب نفسها حتى ألبي طلبها بممارسة الجنس، وفي مرة أخرى أشهرت سكينا وقالت إنها ستضرب بها نفسها طوال الليل لو لم أمارس الجنس معها، والمرة الثالثة هددتني بعد أن أشهرتْ مسدسا بأن 'شيئا سيحدث' لو لم أطاوعها".

ومضى عام كامل بعد أن انتهت العلاقة حين تحدث هايز لصديق راعه ما سمعه فأدرك حينها أن ما وقع كان أكثر من مجرد احتيال بل هو اغتصاب، لكن التجربة التي مر بها هايز لا تتفق بالطبع مع التصور المعهود للاغتصاب، فهو ليس امرأة.

وهناك العديد من المواقف التي تخالف تصور الضحية نفسها عن الاغتصاب، فقد وجدت بيترسون وزميلتها شارلين مولينهارد خلال دراسة حالات 77 طالبة بالجامعة تعرضن لاختراق مهبلي دون موافقتهن، أسبابا عدة لعدم وصف الطالبات ما حدث بالاغتصاب، ومنها:

•وصف المغتصب لا ينطبق على المهاجم ("لقد كان صديقي وهو شخص محبوب من الجميع")

•سلوك الضحية ربما لا يتفق مع المقبول ("كان خطأي لقد استبد بي السكر")

•لم يكن هناك عنف بدني من جانبه وأنا لم أقاوم ("لم يوسعني ضربا")

وربما اتفق التصور التقليدي للاغتصاب مع مواقف الصراع والحروب والكوارث الطبيعية، حيث تجوب عصابات مسلحة تغتصب النساء، فالاغتصاب سلاح معروف من أسلحة الحرب، وحين تعم الفوضى يتفشى العنف الجنسي. وهذا التفشي نفسه قد يضيق تعريف الاغتصاب أكثر لدى مجتمع ما.

تعمل رانيت ميشوري مستشارة طبية مع منظمة "أطباء مدافعون عن حقوق الإنسان" التي تدير برنامجا مناهضا للعنف الجنسي في مناطق الصراع، يشمل بقاعا منها جمهورية الكونغو الديمقراطية حيث الصراع مستمر منذ عقود. تقول ميشوري إن "الاغتصاب أصبح كأنه أمر عادي".

وتضيف: "وفق إحدى الدراسات، قال ثلث الرجال للمحققين إن النساء يرغبن في أن يغتصبن وربما تمتعن بالاغتصاب. والضحايا يتأثرون بعمق بتلك الرسائل حتى يصير الاعتداء شرا لابد منه أو أمرا يتعين على النساء التعايش معه وليس جريمة شنعاء! وهذا أمر شائع في بلدان وثقافات عدة حيث ينظر للذكر باعتبار أن له الحق فيما شاء من جنس".

وأيا كان السياق، تحذر بيترسون قائلة: "سواء وصِف الاعتداء الجنسي أو الاغتصاب كذلك أم لم يوصف فإن هذا لا يقلل من وقع الصدمة التي تصيب الضحية".

تبعة الإقرار بوقوف اعتداء

ومن الأمور المحيرة أنه حتى بعد الإقرار بالاعتداء تتواصل علاقة الضحية بمغتصبها، كأن يُلزم القانون المغتصب بالزواج من ضحيته، وفي ذلك حماية للمغتصب من المقاضاة وتلك القوانين قائمة في بلدان مثل الجزائر والفلبين وطاجيكستان، وحتى في بلدان ليس فيها قوانين من هذا القبيل أحيانا تلجأ الضحية لمواعدة مغتصبها في محاولة للإقلال من وقع الصدمة أو استعادة زمام السيطرة المفقودة - وهذا أمر مفسر سيكولوجيا فالأشخاص يتجاوبون بطرق شتى مع الصدمة وفق قناعاتهم التي تأبى أن تنظر إلى الزوج مثلا أو الصديق بأنه غير أهل للثقة.

ويلجأ الذهن للنفي والإنكار للتعامل مع الصدمات، ويكون من الأيسر التصديق أن ما حدث لم يكن اغتصابا في الحقيقة.

وتقول كايتي راسيل، المتحدثة باسم منظمة مساعدة ضحايا الاغتصاب في انجلترا وويلز، إن الناس قد يجدون صعوبة جمة في تسمية الزوج مثلا أو الزوج السابق كمغتصب، ولاشك أن البوح بذلك أمر عسير "ليس على الملأ فحسب، بل أيضا في دائرة ضيقة أو حتى للنفس".

وترى بيترسون مرجع ذلك في "الفكرة الشائعة بأن المغتصب شخص مجرم ومنحرف بالسليقة"، بينما الواقع المؤسف أن الاعتداءات تحدث في كل مكان من أشخاص لا نتوقعهم. وقد وجدت أن النساء يحجمن عن التفكير في ما تعرضن له من اعتداء كاغتصاب لأسباب عدة منها:

•عدم رغبتهن في وصف المعتدي بالمغتصب ("في البداية تضايقت، ولكني أهتم به ولا أريد أن يوصف بالمغتصب")

•خشية التفكير في كل الرجال كمغتصبين ("يبدو كغيره من الرجال الذين قابلتهم لا يختلف عنهم")

•"الاغتصاب" كلمة ثقيلة ("أسهل عليّ القول إن أول مرة لم تكن باختياري")

وكثيرا ما يستنفد الضحايا، خاصة الفتيات والنساء، جهدا كبيرا في محاولة استماحة العذر للمعتدي ومحاولة الإقلال من شأن الاعتداء باعتباره "سوء فهم أو سوء تواصل" أو "ممارسة غير صحيحة"، وتحميل اللائمة لوجهة أخرى، لأن تبعة وصف الأمر بالاغتصاب ثقيلة تبدأ بالنميمة واللوم وتنتهي بمصاعب اقتصادية ونبذ الأسرة للضحية والوصم الاجتماعي.

عكفت هيذر ليتلتون، أستاذة علم النفس بجامعة إيست كارولينا، على دراسة الاغتصاب غير المعترف به لعقود، وأشارت ورقة بحثية شاركت فيها عن النساء ذوي الدخل المحدود إلى أن الإقرار بالاغتصاب يجعل الضحايا يشعرون بعار أكبر، بينما عدم الإقرار قد يحميهم من كل هذا العار، وقد يؤثر الضحايا تجنب الضيق والقلق الذي ينجم عن الإقرار بالأمر، "ناهيك عن أخريات يتجهن مباشرة دون وعي منهن لرفض الإقرار" بحسب ليتلتون.

ومن ثم من الشائع أن تدفن الضحية شعورها بالخزي والحرج، بل وتوجه اللوم لنفسها تحسبا للوم اللائمين. ويحتاج الناجون من الاعتداء لمن يُسمعهم أن الأمر لم يكن "غلطتهم"!

وتقول ماريسا كوربل بهدوء: "هناك ما حدث، وهناك تأنيب النفس، وهناك من الخزي والعار ما لا قِبل لأحد بإدراكه!"